فصل: تَفْرِيعُ أَمْرِ نِسَاءِ الْمُهَادِنِينَ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الأم ***


نَقْضُ الْعَهْدِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَإِذَا وَادَعَ الْإِمَامُ قَوْمًا مُدَّةً، أَوْ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ قَوْمٍ فَكَانَ الَّذِي عَقَدَ الْمُوَادَعَةَ وَالْجِزْيَةَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً، أَوْ رِجَالاً مِنْهُمْ لَمْ تَلْزَمْهُمْ حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ قَدْ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَرَضِيَهُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَنَاوَلَ لَهُمْ مَالاً وَدَمًا، فَإِنْ فَعَلَ حَكَمَ عَلَيْهِ بِمَا اسْتَهْلَكَ مَا كَانُوا مُسْتَقِيمِينَ، وَإِذَا نَقَضَ الَّذِينَ عَقَدُوا الصُّلْحَ عَلَيْهِمْ، أَوْ نَقَضَتْ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَلَمْ يُخَالِفُوا النَّاقِضَ بِقَوْلٍ، أَوْ فِعْلٍ ظَاهِرٍ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا الْإِمَامَ، أَوْ يَعْتَزِلُوا بِلاَدَهُمْ وَيُرْسِلُوا إلَى الْإِمَامِ إنَّا عَلَى صُلْحِنَا، أَوْ يَكُونَ الَّذِينَ نَقَضُوا خَرَجُوا إلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَهْلِ ذِمَّةٍ لِلْمُسْلِمِينَ فَيُعِينُونَ الْمُقَاتِلِينَ، أَوْ يُعِينُونَ عَلَى مَنْ قَاتَلَهُمْ مِنْهُمْ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَغْزُوَهُمْ، فَإِذَا فَعَلَ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ إلَى الْإِمَامِ خَارِجٌ مِمَّا فَعَلَهُ جَمَاعَتُهُمْ فَلِلْإِمَامِ قَتْلُ مُقَاتِلَتِهِمْ وَسَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ وَغَنِيمَةُ أَمْوَالِهِمْ كَانُوا فِي وَسَطِ دَارِ الْإِسْلاَمِ، أَوْ فِي بِلاَدِ الْعَدُوِّ‏.‏

وَهَكَذَا «فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَنِي قُرَيْظَةَ عَقَدَ عَلَيْهِمْ صَاحِبُهُمْ الصُّلْحَ بِالْمُهَادَنَةِ فَنَقَضَ، وَلَمْ يُفَارِقُوهُ فَسَارَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ وَهِيَ مَعَهُ بِطَرَفِ الْمَدِينَةِ فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيِّهِمْ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ» وَلَيْسَ كُلُّهُمْ اشْتَرَكَ فِي الْمَعُونَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَلَكِنْ كُلُّهُمْ لَزِمَ حِصْنَهُ فَلَمْ يُفَارِقْ الْغَادِرِينَ مِنْهُمْ إلَّا نَفَرٌ فَحَقَنَ ذَلِكَ دِمَاءَهُمْ وَأَحْرَزَ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ إنْ نَقَضَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَاتَلَ لِلْإِمَامِ قِتَالُ جَمَاعَتِهِمْ كَمَا كَانَ يُقَاتِلُهُمْ قَبْلَ الْهُدْنَةِ رُوِيَ أَنَّهُ قَدْ «أَعَانَ عَلَى خُزَاعَةَ وَهُمْ فِي عَقْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَةَ نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَشَهِدُوا قِتَالَهُمْ فَغَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا عَامَ الْفَتْحِ بِغَدْرِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ وَتَرَكَ الْبَاقُونَ مَعُونَةَ خُزَاعَةَ»، فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُمْ خَارِجٌ بَعْدَ مَسِيرِ الْإِمَامِ وَالْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ مُسْلِمًا أَحْرَزَ لَهُ الْإِسْلاَمُ مَالَهُ وَنَفْسَهُ وَصِغَارَ ذُرِّيَّتِهِ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُمْ خَارِجٌ فَقَالَ‏:‏ أَنَا عَلَى الْهُدْنَةِ الَّتِي كَانَتْ وَكَانُوا أَهْلَ هُدْنَةٍ لاَ أَهْلَ جِزْيَةٍ وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ غَدَرَ، وَلاَ أَعَانَ قُبِلَ قَوْلُهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْإِمَامُ غَيْرَ مَا قَالَ فَإِنْ عَلِمَ الْإِمَامُ غَيْرَ مَا قَالَ نَبَذَ إلَيْهِ وَرَدَّهُ إلَى مَأْمَنِهِ ثُمَّ قَاتَلَهُ وَسَبَى ذُرِّيَّتَهُ وَغَنِمَ مَالَهُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ، أَوْ يُعْطِ الْجِزْيَةَ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ غَيْرَ قَوْلِهِ وَظَهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى خِيَانَتِهِ وَخَتْرِهِ، أَوْ خَوْفِ ذَلِكَ مِنْهُ نَبَذَ إلَيْهِ الْإِمَامُ وَأَلْحَقَهُ بِمَأْمَنِهِ ثُمَّ قَاتَلَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ‏}‏‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ نَزَلَتْ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ فِي قَوْمٍ أَهْلِ مُهَادَنَةٍ لاَ أَهْلِ جِزْيَةٍ، وَسَوَاءٌ مَا وَصَفْت فِيمَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، أَوْ لاَ تُؤْخَذُ إلَّا أَنَّ مَنْ لاَ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ إذَا عَرَضَ الْجِزْيَةَ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَخْذُهَا مِنْهُ عَلَى الْأَبَدِ وَأَخَذَهَا مِنْهُ إلَى مُدَّةٍ، قَالَ‏:‏ وَإِنَّ أَهْلَ الْجِزْيَةِ لَيُخَالِفُونَ غَيْرَ أَهْلِ الْجِزْيَةِ فِي أَنْ يَخَافَ الْإِمَامُ غَدْرَ أَهْلِ الْجِزْيَةِ فَلاَ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ بِالْخَوْفِ وَالدَّلاَلَةِ كَمَا يَنْبِذُ إلَى غَيْرِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ حَتَّى يَنْكَشِفُوا بِالْغَدْرِ، أَوْ الِامْتِنَاعِ مِنْ الْجِزْيَةِ أَوْ الْحُكْمِ‏.‏

وَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْهُدْنَةِ مِمَّنْ يُجَوِّزُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ فَخِيفَ خِيَانَتُهُمْ نَبَذَ إلَيْهِمْ، فَإِنْ قَالُوا‏:‏ نُعْطِي الْجِزْيَةَ عَلَى أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْنَا الْحُكْمُ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ إلَّا قَبُولُهَا مِنْهُمْ‏.‏

وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَغْزُوَ دَارَ مَنْ غَدَرَ مِنْ ذِي هُدْنَةٍ، أَوْ جِزْيَةٍ يُغِيرُ عَلَيْهِمْ لَيْلاً وَنَهَارًا وَيَسْبِيهِمْ إذَا ظَهَرَ الْغَدْرُ وَالِامْتِنَاعُ مِنْهُمْ، فَإِنْ تَمَيَّزُوا، أَوْ يُخَالِفُهُمْ قَوْمٌ فَأَظْهَرُوا الْوَفَاءَ وَأَظْهَرَ قَوْمٌ الِامْتِنَاعَ كَانَ لَهُ غَزَوْهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْإِغَارَةُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ، وَإِذَا قَارَبَهُمْ دَعَا أَهْلَ الْوَفَاءِ إلَى الْخُرُوجِ فَإِنْ خَرَجُوا وَفَّى لَهُمْ وَقَاتَلَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْخُرُوجِ كَانَ لَهُ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ وَيَتَوَقَّى أَهْلُ الْوَفَاءِ فَإِنْ قَتَلَ مِنْهُمْ أَحَدًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَقْلٌ، وَلاَ قَوَدٌ؛ لِأَنَّهُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ تَرَكَ أَهْلَ الْوَفَاءِ فَلاَ يَغْنَمُ لَهُمْ مَالاً، وَلاَ يَسْفِكُ لَهُمْ دَمًا، وَإِذَا اخْتَلَطُوا فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَادَّعَى كُلٌّ أَنَّهُ لَمْ يَغْدِرْ، وَقَدْ كَانَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ اعْتَزَلَتْ أَمْسَكَ عَنْ كُلِّ مَنْ شَكَّ فِيهِ فَلَمْ يَقْتُلْهُ، وَلَمْ يَسْبِ ذُرِّيَّتَهُ، وَلَمْ يَغْنَمْ مَالَهُ وَقَتَلَ وَسَبَى ذُرِّيَّةَ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ غَدَرَ، وَغَنِمَ مَالَهُ‏.‏

مَا أَحْدَثَ الَّذِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَإِذَا وَادَعَ الْإِمَامُ قَوْمًا فَأَغَارُوا عَلَى قَوْمٍ مُوَادِعِينَ، أَوْ أَهْلِ ذِمَّةٍ، أَوْ مُسْلِمِينَ فَقَتَلُوا، أَوْ أَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرُوا نُقِضَ الصُّلْحُ فَلِلْإِمَامِ غَزْوُهُمْ وَقَتْلُهُمْ وَسِبَاؤُهُمْ، وَإِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَلْزَمَهُمْ بِمَنْ قَتَلُوا وَجَرَحُوا وَأَخَذُوا مَالَهُ الْحُكْمَ كَمَا يَلْزَمُ أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ عَقْلٍ وَقَوَدٍ وَضَمَانٍ قَالَ‏:‏ وَإِنْ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَآذَنُوا الْإِمَامَ بِحَرْبٍ، أَوْ أَظْهَرُوا نَقْضَ الْعَهْدِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنُوا الْإِمَامَ بِحَرْبٍ إلَّا أَنَّهُمْ قَدْ أَظْهَرُوا الِامْتِنَاعَ فِي نَاحِيَتِهِمْ ثُمَّ أَغَارُوا، أَوْ أُغِيرَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوا، أَوْ جَرَحُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ حُورِبُوا وَسُبُوا وَقُتِلُوا، فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَفِيهَا قَوْلاَنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا لاَ يَكُونُ عَلَيْهِمْ قَوَدٌ فِي دَمٍ، وَلاَ جُرْحٍ وَأَخَذَ مِنْهُمْ مَا وَجَدَ عِنْدَهُمْ مِنْ مَالٍ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يَضْمَنُوا مَا هَلَكَ مِنْ الْمَالِ وَمَنْ قَالَ‏:‏ هَذَا قَالَ‏:‏ إنَّمَا فَرَّقْت بَيْنَ هَذَا، وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقَوَدِ وَزَعَمْت أَنَّك تَحْكُمُ بَيْنَ الْمُعَاهَدِينَ بِهِ وَيَجْرِي عَلَى الْمُعَاهَدِينَ مَا يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

قُلْت اسْتِدْلاَلاً بِالسُّنَّةِ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ وَقِيَاسًا عَلَيْهِمْ ثُمَّ مَا لَمْ أَعْلَمْ فِيهِ مُخَالِفًا‏.‏ فَإِنْ قَالَ فَأَيْنَ‏؟‏ قُلْت‏:‏ قَتَلَ وَحْشِيٌّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَوْمَ أُحُدٍ وَوَحْشِيٌّ مُشْرِكٌ، وَقَتَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ قُرَيْشٍ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْضُ مَنْ قَتَلَ فَلَمْ يَجْعَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَاتِلٍ مِنْهُمْ قَوَدًا وَأَحْسِبُ ذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ يُقَالُ نَزَلَتْ فِي الْمُحَارِبِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ الْمُحَارِبُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ خَارِجِينَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ وَمَا وَصَفْت مِنْ دَلاَلَةِ السُّنَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ طُلَيْحَةُ وَغَيْرُهُ ثُمَّ ارْتَدُّوا وَقَتَلَ طُلَيْحَةَ وَأَخُوهُ ثَابِتُ بْنُ أَفْرَمَ وَعُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ بَعْدَمَا أَظْهَرَ طُلَيْحَةُ وَأَخُوهُ الشِّرْكَ فَصَارَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالِامْتِنَاعِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ «وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيَّيْنِ مُوَادِعَيْنِ زَنَيَا بِأَنْ جَاءُوهُ وَنَزَلَ عَلَيْهِ ‏{‏فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ فَلَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ عَلَى كُلِّ ذِمِّيٍّ وَمُوَادِعٍ فِي مَالِ مُسْلِمٍ وَمُعَاهَدٍ أَصَابَهُ بِمَا أَصَابَ مَا لَمْ يَصِرْ إلَى إظْهَارِ الْمُحَارَبَةِ، فَإِذَا صَارَ إلَيْهَا لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِمَا أَصَابَ بَعْدَ إظْهَارِهَا وَالِامْتِنَاعِ كَمَا لَمْ يَحْكُمْ عَلَى مَنْ صَارَ إلَى الْإِسْلاَمِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ بِمَا فَعَلَ فِي الْمُحَارَبَةِ وَالِامْتِنَاعِ مِثْلُ طُلَيْحَةَ وَأَصْحَابِهِ، فَإِذَا أَصَابُوا وَهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلاَمِ غَيْرَ مُمْتَنِعِينَ شَيْئًا فِيهِ حَقٌّ لِمُسْلِمٍ أُخِذَ مِنْهُ، وَإِنْ امْتَنَعُوا بَعْدَهُ لَمْ يَزِدْهُمْ الِامْتِنَاعُ خَيْرًا وَكَانُوا فِي غَيْرِ حُكْمِ الْمُمْتَنِعِينَ ثُمَّ يَنَالُونَ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ دَمًا وَمَالاً أُولَئِكَ إنَّمَا نَالُوهُ بَعْدَ الشِّرْكِ وَالْمُحَارَبَةِ وَهَؤُلاَءِ نَالُوهُ قَبْلَ الْمُحَارَبَةِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا قَتَلَ ثُمَّ ارْتَدَّ وَحَارَبَ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ وَتَابَ كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَكَذَلِكَ مَا أَصَابَ مِنْ مَالِ مُسْلِمٍ، أَوْ مُعَاهَدٍ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ مَا أَصَابَ الْمُعَاهَدُ وَالْمُوَادَعُ لِمُسْلِمٍ، أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَلْزَمُ أَنْ يُؤْخَذَ لَهُ، وَيُخَالِفُ الْمُعَاهَدُ الْمُسْلِمَ فِيمَا أَصَابَ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلاَ تُقَامُ عَلَى الْمُعَاهَدِينَ حَتَّى يَأْتُوا طَائِعِينَ، أَوْ يَكُونَ فِيهِ سَبَبُ حَقٍّ لِغَيْرِهِمْ فَيَطْلُبَهُ، وَهَكَذَا حُكْمُهُمَا مُعَاهَدِينَ قِيلَ‏:‏ يَمْتَنِعَانِ، أَوْ يَنْقُضَانِ‏.‏

وَالْقَوْلُ الثَّانِي‏:‏ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَسْلَمَ، أَوْ الْقَوْمَ إذَا أَسْلَمُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا وَحَارَبُوا أَوْ امْتَنَعُوا وَقَتَلُوا ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أُقِيدَ مِنْهُمْ فِي الدِّمَاءِ وَالْجِرَاحِ وَضَمِنُوا الْأَمْوَالَ تَابُوا أَوْ لَمْ يَتُوبُوا، وَمَنْ قَالَ‏:‏ هَذَا قَالَ لَيْسُوا كَالْمُحَارِبِينَ مِنْ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ إذَا أَسْلَمُوا غُفِرَ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَهَؤُلاَءِ إذَا ارْتَدُّوا حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ تَطْرَحُ عَنْهُمْ الرِّدَّةُ شَيْئًا كَانَ يَلْزَمُهُمْ لَوْ فَعَلُوهُ مُسْلِمِينَ بِحَالٍ مِنْ دَمٍ، وَلاَ قَوَدٍ، وَلاَ مَالٍ، وَلاَ حَدٍّ، وَلاَ غَيْرِهِ وَمَنْ قَالَ‏:‏ هَذَا قَالَ‏:‏ لَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الرِّدَّةِ قَاتِلٌ يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ، أَوْ كَانَ فَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَطْلُبْهُ وُلاَةُ الدَّمِ‏.‏

قَالَ الرَّبِيعُ‏:‏ وَهَذَا عِنْدِي أَشْبَهَهُمَا بِقَوْلِهِ عِنْدِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَقَالَ‏:‏ فِي ذَلِكَ إنْ لَمْ تَزِدْهُ الرِّدَّةُ شَرًّا لَمْ تَزِدْهُ خَيْرًا؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ عَلَيْهِمْ قَائِمَةٌ فِيمَا نَالُوهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ‏.‏

مَا أَحْدَثَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْمُوَادَعُونَ مِمَّا لاَ يَكُونُ نَقْضًا

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَإِذَا أُخِذَتْ الْجِزْيَةُ مِنْ قَوْمٍ فَقَطَعَ قَوْمٌ مِنْهُمْ الطَّرِيقَ، أَوْ قَاتَلُوا رَجُلاً مُسْلِمًا فَضَرَبُوهُ، أَوْ ظَلَمُوا مُسْلِمًا، أَوْ مُعَاهَدًا، أَوْ زَنَى مِنْهُمْ زَانٍ أَوْ أَظْهَرَ فَسَادًا فِي مُسْلِمٍ، أَوْ مُعَاهَدٍ حُدَّ فِيمَا فِيهِ الْحَدُّ وَعُوقِبَ عُقُوبَةً مُنَكَّلَةً فِيمَا فِيهِ الْعُقُوبَةُ، وَلَمْ يُقْتَلْ إلَّا بِأَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا نَقْضًا لِلْعَهْدِ يَحِلُّ دَمُهُ، وَلاَ يَكُونُ النَّقْضُ لِلْعَهْدِ إلَّا بِمَنْعِ الْجِزْيَةِ، أَوْ الْحُكْمِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَالِامْتِنَاعِ بِذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ‏:‏ أُؤَدِّي الْجِزْيَةَ، وَلاَ أُقِرُّ بِحُكْمٍ نَبَذَ إلَيْهِ، وَلَمْ يُقَاتَلْ عَلَى ذَلِكَ مَكَانَهُ وَقِيلَ‏:‏ قَدْ تَقَدَّمَ لَك أَمَانٌ بِأَدَائِك لِلْجِزْيَةِ وَإِقْرَارِك بِهَا، وَقَدْ أَجَّلْنَاك فِي أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ، ثُمَّ إذَا خَرَجَ فَبَلَغَ مَأْمَنَهُ قُتِلَ إنْ قُدِرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا لِلْمُشْرِكَيْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَدُلُّ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ عُوقِبَ عُقُوبَةً مُنَكَّلَةً، وَلَمْ يُقْتَلْ وَلَمْ يُنْقَضْ عَهْدُهُ، وَإِنْ صَنَعَ بَعْضَ مَا وَصَفْتُ مِنْ هَذَا، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مُوَادِعٌ إلَى مُدَّةٍ نَبَذَ إلَيْهِ، فَإِذَا بَلَغَ مَأْمَنَهُ قُوتِلَ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ، أَوْ يَكُونَ مِمَّنْ تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ فَيُعْطِيهَا لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ‏}‏ الآيَةَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَأَمَرَ فِي الَّذِينَ لَمْ يَخُونُوا أَنْ يُتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ‏}‏ الآيَةَ‏.‏

الْمُهَادَنَةُ

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قِتَالَ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُسْلِمُوا وَأَهْلُ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ وَقَالَ‏:‏ «لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا» فَهَذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قِتَالَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَنْ يُهَادِنُوهُمْ، وَقَدْ كَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِتَالِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ بِلاَ مُهَادَنَةٍ إذَا انْتَاطَتْ دُورُهُمْ عَنْهُمْ مِثْلَ بَنِي تَمِيمٍ وَرَبِيعَةَ وَأَسَدٍ، وَطِيء حَتَّى كَانُوا هُمْ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَهَادَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا وَوَادَعَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ يَهُودًا عَلَى غَيْرِ مَا خَرَجَ أَخَذَهُ مِنْهُمْ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَقِتَالُ الصِّنْفَيْنِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَرْضٌ إذَا قَوِيَ عَلَيْهِمْ وَتَرْكُهُ وَاسِعٌ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ أَوْ عَنْ بَعْضِهِمْ ضَعْفٌ، أَوْ فِي تَرْكِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ نَظَرٌ لِلْمُهَادَنَةِ وَغَيْرِ الْمُهَادَنَةِ، فَإِذَا قُوتِلُوا، فَقَدْ وَصَفْنَا السِّيرَةَ فِيهِمْ فِي مَوْضِعِهَا‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى، وَإِذَا ضَعُفَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ لِبُعْدِ دَارِهِمْ، أَوْ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ أَوْ خَلَّةٍ بِالْمُسْلِمِينَ، أَوْ بِمَنْ يَلِيهِمْ مِنْهُمْ جَازَ لَهُمْ الْكَفُّ عَنْهُمْ وَمُهَادَنَتُهُمْ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ أَعْطَاهُمْ الْمُشْرِكُونَ شَيْئًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ كَانَ لَهُمْ أَخْذُهُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذُوهُ مِنْهُمْ إلَّا إلَى مُدَّةٍ يَرَوْنَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَقْوَوْنَ عَلَيْهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَفَاءٌ بِالْجِزْيَةِ، أَوْ كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ، وَلَمْ يُعْطُوا أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ الْحُكْمُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَلاَ خَيْرَ فِي أَنْ يُعْطِيَهُمْ الْمُسْلِمُونَ شَيْئًا بِحَالٍ عَلَى أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لِلْمُسْلِمِينَ شَهَادَةٌ وَأَنَّ الْإِسْلاَمَ أَعَزُّ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ مُشْرِكٌ عَلَى أَنْ يَكُفَّ عَنْ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّ أَهْلَهُ قَاتِلِينَ وَمَقْتُولِينَ ظَاهِرُونَ عَلَى الْحَقِّ إلَّا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ وَأُخْرَى أَكْثَرُ مِنْهَا وَذَلِكَ أَنْ يَلْتَحِمَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَخَافُونَ أَنْ يَصْطَلِحُوا لِكَثْرَةِ الْعَدُوِّ وَقِلَّتِهِمْ وَخَلَّةٍ فِيهِمْ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُعْطُوا فِي تِلْكَ الْحَالِ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَعَانِي الضَّرُورَاتِ يَجُوزُ فِيهَا مَا لاَ يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا، أَوْ يُؤْسَرُ مُسْلِمٌ فَلاَ يُخْلَى إلَّا بِفِدْيَةٍ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُفْدَى؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَى رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ بِرَجُلَيْنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَى رَجُلاً بِرَجُلَيْنِ»‏.‏

الْمُهَادَنَةُ عَلَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ

أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ‏:‏ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ «قَامَتْ الْحَرْبُ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرَيْشٍ ثُمَّ أَغَارَتْ سَرَايَاهُ عَلَى أَهْلِ نَجْدٍ حَتَّى تَوَقَّى النَّاسُ لِقَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَوْفًا لِلْحَرْبِ دُونَهُ مِنْ سَرَايَاهُ وَإِعْدَادِ مَنْ يُعِدُّ لَهُ مِنْ عَدُوِّهِ بِنَجْدٍ فَمَنَعَتْ مِنْهُ قُرَيْشٌ أَهْلَ تِهَامَةَ وَمَنَعَ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْهُ أَهْلَ نَجْدٍ الْمَشْرِقِ ثُمَّ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فَسَمِعَتْ بِهِ قُرَيْشٌ فَجَمَعَتْ لَهُ وَجَدَّتْ عَلَى مَنْعِهِ وَلَهُمْ جُمُوعٌ أَكْثَرُ مِمَّنْ خَرَجَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَدَاعَوْا الصُّلْحَ فَهَادَنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مُدَّةٍ، وَلَمْ يُهَادِنْهُمْ عَلَى الْأَبَدِ»؛ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا فَرْضٌ إذَا قَوِيَ عَلَيْهِمْ وَكَانَتْ الْهُدْنَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرُ سِنِينَ وَنَزَلَ عَلَيْهِ فِي سَفَرِهِ فِي أَمْرِهِمْ ‏{‏إنَّا فَتَحْنَا لَك فَتْحًا مُبِينًا‏}‏ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ‏:‏ فَمَا كَانَ فِي الْإِسْلاَمِ فَتْحٌ أَعْظَمَ مِنْهُ كَانَتْ الْحَرْبُ قَدْ أَحْرَجَتْ النَّاسَ فَلَمَّا أَمِنُوا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْإِسْلاَمِ أَحَدٌ يَعْقِلُ إلَّا قَبِلَهُ فَلَقَدْ أَسْلَمَ فِي سِنِينَ مِنْ تِلْكَ الْهُدْنَةِ أَكْثَرُ مِمَّنْ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ نَقَضَ بَعْضُ قُرَيْشٍ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ إنْكَارًا يُعْتَدُّ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْتَزِلْ دَارِهِ فَغَزَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ مُخْفِيًا لِوَجْهِهِ لِيُصِيبَ مِنْهُمْ غُرَّةً‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَكَانَتْ هُدْنَةُ قُرَيْشٍ نَظَرًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ لِلْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْتُ مِنْ كَثْرَةِ جَمْعِ عَدُوِّهِمْ وَجَدِّهِمْ عَلَى قِتَالِهِ، وَإِنْ أَرَادُوا الدُّخُولَ عَلَيْهِمْ وَفَرَاغَهُ لِقِتَالِ غَيْرِهِمْ وَأَمِنَ النَّاسُ حَتَّى دَخَلُوا فِي الْإِسْلاَمِ قَالَ‏:‏ فَأُحِبُّ لِلْإِمَامِ إذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ وَأَرْجُو أَنْ لاَ يُنْزِلَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُهَادَنَةً يَكُونُ النَّظَرُ لَهُمْ فِيهَا، وَلاَ يُهَادِنُ إلَّا إلَى مُدَّةٍ، وَلاَ يُجَاوِزُ بِالْمُدَّةِ مُدَّةَ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ كَانَتْ النَّازِلَةُ مَا كَانَتْ فَإِنْ كَانَتْ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ قَاتَلُوا الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَإِنْ لَمْ يَقْوَ الْإِمَامُ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُجَدِّدَ مُدَّةً مِثْلَهَا أَوْ دُونَهَا، وَلاَ يُجَاوِزُهَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ وَالضَّعْفَ لِعَدُوِّهِمْ قَدْ يَحْدُثُ فِي أَقَلَّ مِنْهَا، وَإِنْ هَادَنَهُمْ إلَى أَكْثَرَ مِنْهَا فَمُنْتَقَضَةٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ حِينَ يُؤْمِنُوا، أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَذِنَ بِالْهُدْنَةِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ‏}‏ فَلَمَّا لَمْ يَبْلُغْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُدَّةٍ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُهَادِنَ إلَّا عَلَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تَجَاوُزَ‏.‏

قَالَ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُهَادِنَ الْقَوْمَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّظَرِ إلَى غَيْرِ مُدَّةٍ هُدْنَةً مُطْلَقَةً، فَإِنَّ الْهُدْنَةَ الْمُطْلَقَةَ عَلَى الْأَبَدِ وَهِيَ لاَ تَجُوزُ لِمَا وَصَفْت، وَلَكِنْ يُهَادِنُهُمْ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ إلَيْهِ حَتَّى إنْ شَاءَ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ فَإِنْ رَأَى نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْبِذَ فَعَلَ، فَإِنْ قَالَ‏:‏ قَائِلٌ فَهَلْ لِهَذِهِ الْمُدَّةِ أَصْلٌ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ نَعَمْ «افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْوَالَ خَيْبَرَ عَنْوَةً وَكَانَتْ رِجَالُهَا وَذَرَارِيّهَا إلَّا أَهْلَ حِصْنٍ وَاحِدٍ صُلْحًا فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يُقِرَّهُمْ مَا أَقَرَّهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيَعْمَلُونَ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ بِالشَّطْرِ مِنْ الثَّمَرِ»‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَفِي هَذَا نَظَرٌ لِلْمُسْلِمِينَ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ نَعَمْ كَانَتْ خَيْبَرُ وَسَطَ مُشْرِكِينَ وَكَانَتْ يَهُودُ أَهْلِهَا مُخَالِفِينَ لِلْمُشْرِكَيْنِ وَأَقْوِيَاءَ عَلَى مَنْعِهَا مِنْهُمْ وَكَانَتْ وَبِئَةً لاَ تُوطَأُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ فَكَفَوْهُمْ الْمُؤْنَةَ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ كَثْرَةٌ فَيَنْزِلُهَا مِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهَا فَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجْلاَءِ الْيَهُودِ عَنْ الْحِجَازِ» فَثَبَتَ عِنْدَ عُمَرَ ذَلِكَ فَأَجْلاَهُمْ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُهَادِنَهُمْ إلَى غَيْرِ مُدَّةٍ هَادَنَهُمْ عَلَى أَنَّهُ إذَا بَدَا لَهُ نَقْضُ الْهُدْنَةِ فَذَلِكَ إلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُلْحِقَهُمْ بِمَا مِنْهُمْ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَلِمَ لاَ يَقُولُ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ، وَلاَ يَأْتِي أَحَدًا غَيْرَهُ بِوَحْيٍ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَمَنْ جَاءَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُ الْإِسْلاَمَ فَحَقٌّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُؤْمِنَهُ حَتَّى يَتْلُوَ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَدْعُوَهُ إلَى الْإِسْلاَمِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَرْجُو أَنْ يُدْخِلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ عَلَيْهِ الْإِسْلاَمَ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ‏}‏ الْآيَةُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَمَنْ قُلْت يَنْبِذُ إلَيْهِ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ وَإِبْلاَغُهُ مَأْمَنَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُعَاهَدِينَ مَا كَانَ فِي بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ، أَوْ حَيْثُ يَتَّصِلُ بِبِلاَدِ الْإِسْلاَمِ وَسَوَاءٌ قَرُبَ ذَلِكَ أَمْ بَعُدَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ‏:‏ يَعْنِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ مِنْك أَوْ مِمَّنْ يَقْتُلُهُ عَلَى دِينِك مِمَّنْ يُطِيعُك لاَ أَمَانُهُ مِنْ غَيْرِك مِنْ عَدُوِّك وَعَدُوِّهِ الَّذِي لاَ يَأْمَنُهُ، وَلاَ يُطِيعُك، فَإِذَا أَبْلَغَهُ الْإِمَامُ أَدْنَى بِلاَدِ الْمُشْرِكِينَ شَيْئًا، فَقَدْ أَبْلَغَهُ مَأْمَنَهُ الَّذِي كُلِّفَ إذَا أَخْرَجَهُ سَالِمًا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلاَمِ وَمَنْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلاَمِ مِنْ أَهْلِ عَهْدِهِمْ فَإِنْ قَطَعَ بِهِ بِلاَدَنَا، وَهُوَ أَهْلُ الْجِزْيَةِ كُلِّفَ الْمَشْيَ وَرُدَّ إلَّا أَنْ يُقِيمَ عَلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يَجُوزُ فِيهِ الْجِزْيَةُ يُكَلَّفُ الْمَشْيَ، أَوْ حُمِلَ، وَلَمْ يُقِرَّ بِبِلاَدِ الْإِسْلاَمِ وَأُلْحِقَ بِمَأْمَنِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَشِيرَتُهُ الَّتِي يَأْمَنُ فِيهَا بَعِيدَةً فَأَرَادَ أَنْ يَبْلُغَ أَبْعَدَ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مأمنان فَعَلَى الْإِمَامِ إلْحَاقُهُ بِحَيْثُ كَانَ يَسْكُنُ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ لَهُ بَلَدَا شِرْكٍ كَانَ يَسْكُنُهُمَا مَعًا أَلْحَقَهُ الْإِمَامُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ الْإِمَامُ، وَمَتَى سَأَلَ أَنْ يجيره حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُبَلِّغَهُ مَأْمَنَهُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَانَ ذَلِكَ فَرْضًا عَلَى الْإِمَامِ، وَلَوْ لَمْ يُجَاوِزْ بِهِ مَوْضِعَهُ الَّذِي اسْتَأْمَنَهُ مِنْهُ رَجَوْت أَنْ يَسَعَهُ‏.‏

مُهَادَنَةُ مَنْ يَقْوَى عَلَى قِتَالِهِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَإِذَا سَأَلَ قَوْمٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مُهَادَنَةً فَلِلْإِمَامِ مُهَادَنَتُهُمْ عَلَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ بِلاَ مُؤْنَةٍ وَلَيْسَ لَهُ مُهَادَنَتُهُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ وَلَيْسَ لَهُ مُهَادَنَتُهُمْ عَلَى النَّظَرِ عَلَى غَيْرِ الْجِزْيَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ إلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ‏}‏ الآيَةَ وَمَا بَعْدَهَا‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ «لَمَّا قَوِيَ أَهْلُ الْإِسْلاَمِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْجِعَهُ مِنْ تَبُوكَ ‏{‏بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ فَأَرْسَلَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله تعالى عنه فَقَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ وَكَانَ فَرْضًا أَنْ لاَ يُعْطِيَ لِأَحَدٍ مُدَّةً بَعْدَ هَذِهِ الْآيَاتِ إلَّا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ»؛ لِأَنَّهَا الْغَايَةُ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ‏:‏ «وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بِسِنِينَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» لَمْ أَعْلَمْهُ زَادَ أَحَدًا بَعْدَ أَنْ قَوِيَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَقِيلَ‏:‏ كَانَ الَّذِينَ عَاهَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا مُوَادِعِينَ إلَى غَيْرِ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ فَجَعَلَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ جَعَلَهَا رَسُولُهُ كَذَلِكَ وَأَمَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْمٍ عَاهَدَهُمْ إلَى مُدَّةٍ قَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ أَنْ يُتِمَّ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ مَا اسْتَقَامُوا لَهُ وَمَنْ خَافَ مِنْهُ خِيَانَةً نَبَذَ إلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَأْنِفَ مُدَّةً بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ وَبِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ إلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لِمَا وَصَفْتُ مِنْ فَرْضِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ وَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ وَلاَ أَعْرِفُ كَمْ كَانَتْ مُدَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُدَّةُ مَنْ أَمَرَ أَنْ يُتِمَّ إلَيْهِ عَهْدَهُ إلَى مُدَّتِهِ قَالَ وَيَجْعَلُ الْإِمَامُ الْمُدَّةَ إلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إنْ رَأَى ذَلِكَ وَلَيْسَ بِلاَزِمٍ لَهُ أَنْ يُهَادِنَ بِحَالٍ إلَّا عَلَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَيُبَيِّنُ لِمَنْ هَادَنَ وَيَجُوزُ لَهُ فِي النَّظَرِ لِمَنْ رَجَا إسْلاَمَهُ، وَإِنْ تَكُنْ لَهُ شَوْكَةٌ أَنْ يُعْطِيَهُ مُدَّةً أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إذَا خَافَ إنْ لَمْ يَفْعَلْ أَنْ يَلْحَقَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَإِنْ ظَهَرَ عَلَى بِلاَدِهِ، فَقَدْ صَنَعَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَفْوَانَ حِينَ خَرَجَ هَارِبًا إلَى الْيَمَنِ مِنْ الْإِسْلاَمِ ثُمَّ أَنْعَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ بِالْإِسْلاَمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَ مُدَّتُهُ وَمُدَّتُهُ أَشْهُرٌ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَإِنْ جَعَلَ الْإِمَامُ لِمَنْ قُلْت لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مُدَّةً أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِ لِمَا وَصَفْت مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ لَهُ وَيُوَفِّيَهُ الْمُدَّةَ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لاَ يَزِيدُهُ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ لَهُ إذَا كَانَتْ مُدَّةٌ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَنْ يَقُولَ لاَ أَفِي لَك بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ إنَّمَا هُوَ فِيمَا جَاوَزَ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرَ‏.‏

جِمَاعُ الْهُدْنَةِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الْإِمَامُ مَنْ جَاءَ بَلَدَهُ مُسْلِمًا، أَوْ مُشْرِكًا

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ ذَكَرَ عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمَغَازِي «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَادَنَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَأْمَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَأَنَّ مَنْ جَاءَ قُرَيْشًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُرْتَدًّا لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ وَمَنْ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ مِنْهُمْ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُعْطِهِمْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا إلَى غَيْرِ الْمَدِينَةِ فِي بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ وَالشِّرْكِ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ»، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ فِي مُسْلِمٍ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ شَيْئًا مِنْ هَذَا الشَّرْطِ وَذَكَرُوا أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ فِي مُهَادَنَتِهِمْ «إنَّا فَتَحْنَا لَك فَتْحًا مُبِينًا» فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ‏:‏ قَضَيْنَا لَك قَضَاءً مُبِينًا فَتَمَّ الصُّلْحُ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى هَذَا حَتَّى جَاءَتْهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْت عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مُسْلِمَةً مُهَاجِرَةً فَنَسَخَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الصُّلْحَ فِي النِّسَاءِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ‏}‏ الْآيَةُ كُلُّهَا وَمَا بَعْدَهَا‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ مِنْ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَسَخَ رَدَّ النِّسَاءِ إنْ كُنَّ فِي الصُّلْحِ وَمَنَعَ أَنْ يُرْدَدْنَ بِكُلِّ حَالٍ، فَإِذَا صَالَحَ الْإِمَامُ عَلَى مِثْلِ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ صَالَحَ عَلَى أَنْ لاَ يَمْنَعَ الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ إذَا جَاءَ أَحَدٌ مِنْ رِجَالِ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ إلَى مَنْزِلِ الْإِمَامِ نَفْسِهِ وَجَاءَ مَنْ يَطْلُبُهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِأَنْ لاَ يَمْنَعَهُ مِنْ الذَّهَابِ بِهِ وَأَشَارَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ أَنْ لاَ يَأْتِيَ مَنْزِلَهُ وَأَنْ يَذْهَبَ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّ أَرْضَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاسِعَةٌ فِيهَا مُرَاغَمٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ «كَانَ أَبُو بَصِيرٍ لَحِقَ بِالْعِيصِ مُسْلِمًا وَلَحِقَتْ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَطَلَبُوهُمْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ‏:‏ إنَّمَا أَعْطَيْنَاكُمْ أَنْ لاَ نُؤْيَهُمْ ثُمَّ لاَ نَمْنَعَكُمْ مِنْهُمْ إذَا جِئْتُمْ وَنَتْرُكُهُمْ يَنَالُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَا شَاءُوا»‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله‏:‏ وَإِذَا صَالَحَ الْإِمَامُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ بِمَنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى بَعْثِهِ مِنْهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْتِهِ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْعَثْ إلَيْهِمْ مِنْهُمْ بِأَحَدٍ، وَلَمْ يَأْمُرْ أَبَا بَصِيرٍ، وَلاَ أَصْحَابَهُ بِإِتْيَانِهِمْ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا مَعْنَى رَدَدْنَاهُ إلَيْكُمْ لَمْ نَمْنَعْهُ كَمَا نَمْنَعُ غَيْرَهُ، وَإِذَا صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ لاَ يَمْنَعَهُمْ مِنْ نِسَاءٍ مُسْلِمَاتٍ جِئْنَهُ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ وَعَلَيْهِ مَنْعُهُمْ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ إنْ لَمْ يَكُنَّ دَخَلْنَ فِي الصُّلْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى هَذَا فِيهِنَّ، وَإِنْ كُنَّ دَخَلْنَ فِيهِ، فَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لاَ تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ وَمَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ جَاءَهُ مِنْ النِّسَاءِ وَهَكَذَا مَنْ جَاءَهُ مِنْ مَعْتُوهٍ، أَوْ صَبِيٍّ هَارِبًا مِنْهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُ التَّخْلِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُمَا يُجَامِعَانِ النِّسَاءَ فِي أَنْ لاَ يُمْنَعَا مَعًا وَيَزِيدَانِ عَلَى النِّسَاءِ أَنْ لاَ يَعْرِفَا ثَوَابًا فِي أَنْ يَنَالَ مِنْهُمَا الْمُشْرِكُونَ شَيْئًا، وَلاَ يَرُدُّ إلَيْهِمْ فِي صَبِيٍّ، وَلاَ فِي مَعْتُوهٍ شَيْئًا كَمَا لاَ يَرُدُّ إلَيْهِمْ فِي النِّسَاءِ غَيْرَ الْمُتَزَوِّجَاتِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الرَّدَّ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُتَزَوِّجَاتِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَمَنْ جَاءَهُ مِنْ عَبِيدِهِمْ مُسْلِمًا لَمْ يَرُدَّهُ إلَيْهِمْ وَأَعْتَقَهُ بِخُرُوجِهِ إلَيْهِ، وَفِي إعْطَائِهِمْ الْقِيمَةَ قَوْلاَنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُعْطُوهَا ذَكَرًا، أَوْ أُنْثَى؛ لِأَنَّ رَقِيقَهُمْ لَيْسَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ حُرْمَةُ الْإِسْلاَمِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ قَائِلٌ فَكَيْفَ لاَ يَكُونُ مِنْهُمْ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ‏}‏ فَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهَا عَلَى الْأَحْرَارِ دُونَ الْمَمَالِيكِ ذَوِي الْعَدْلِ، وَلاَ يُقَالُ‏:‏ لِرَقِيقِ الرَّجُلِ هُمْ مِنْك إنَّمَا يُقَالُ هُمْ مَالُك، وَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ الْقِيمَةَ بِأَنَّهُمْ إذَا صُولِحُوا أَمِنُوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَلَهُمْ أَمَانٌ فَلَمَّا حَكَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْ يَرُدَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّهَا فَائِتَةٌ حُكِمَ بِأَنْ يَرُدَّ قِيمَةَ الْمَمْلُوكِ؛ لِأَنَّهُ فَائِتٌ‏.‏ وَمَا رَدَدْنَا عَلَيْهِمْ فِيهِ مِنْ النَّفَقَةِ‏.‏ قُلْنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنْهُمْ إذَا فَاتَ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ مِثْلَهُ وَمَا لَمْ نُعْطِهِمْ فِيهِ شَيْئًا مِنْ الْأَحْرَارِ الرِّجَالِ، أَوْ غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ لَمْ نَأْخُذْ مِنْهُمْ شَيْئًا إذَا فَاتَ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إنَّمَا حَكَمَ بِأَنْ يُرَدَّ إلَيْهِمْ الْعِوَضُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حَكَمَ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُمْ مِثْلَهُ‏.‏

وَالْقَوْلُ الثَّانِي‏:‏ لاَ يَرُدُّ إلَيْهِمْ قِيمَةً، وَلاَ يَأْخُذُ مِنْهُمْ فِيمَنْ فَاتَ إلَيْهِمْ مِنْ رَقِيقٍ عَيْنًا، وَلاَ قِيمَةً؛ لِأَنَّ رَقِيقَهُمْ لَيْسُوا مِنْهُمْ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إذَا لَمْ يُصَالِحْ الْقَوْمَ إلَّا عَلَى مَا وَصَفْت أَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنْ مُسْلِمٍ كَانَ أَسِيرًا فِي أَيْدِيهِمْ فَانْفَلَتَ مِنْهُمْ، وَلاَ يَقْضِي لَهُمْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَلَوْ أَقَرَّ عَبْدُهُمْ أَنَّهُمْ أَرْسَلُوهُ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِمْ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ لَهُمْ، وَلَمْ يَخْرُجْ الْمُسْلِمُ بِحَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُمُوهُ عَلَى ضَرُورَةٍ هِيَ أَكْثَرُ الْإِكْرَاهِ وَكُلُّ مَا أَعْطَى الْمَرْءُ عَلَى الْإِكْرَاهِ لَمْ يَلْزَمْهُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَلَوْ أَنَّ أَسِيرًا فِي بِلاَدِ الْحَرْبِ أَخَذَ مِنْهُمْ مَالاً عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْهُ عِوَضًا كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِثْلَ مَالِهِمْ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ أَوْ مِثْلَ قِيمَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ أَوْ الْعِوَضَ الَّذِي رَضُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ رَدَّهُ إلَيْهِمْ بِعَيْنِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ تَغَيَّرَ، وَإِنْ كَانَ تَغَيَّرَ رَدَّهُ وَرَدَّ مَا نَقَصَهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى أَمَانٍ، وَإِنَّمَا أَبْطَلْتُ عَنْهُ الشَّرْطَ بِالْإِكْرَاهِ وَالضَّرُورَةِ فِيمَا لَمْ يَأْخُذْ بِهِ عَرَضًا‏.‏

وَهَكَذَا لَوْ صَالَحْنَا قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مِثْلِ مَا وَصَفْت فَكَانَ فِي أَيْدِيهِمْ أَسِيرٌ مِنْ غَيْرِهِمْ فَانْفَلَتَ فَأَتَانَا لَمْ يَكُنْ لَنَا رَدُّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ قَدْ يُمْسِكُونَ عَنْ قَتْلِ وَتَعْذِيبِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ إمْسَاكًا لاَ يُمْسِكُونَهُ عَنْ غَيْرِهِ‏.‏

أَصْلُ نَقْضِ الصُّلْحِ فِيمَا لاَ يَجُوزُ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ حَفِظْنَا أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ الصُّلْحَ الَّذِي وَصَفْتُ فَخَلَّى بَيْنَ مَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ الرِّجَالِ وَوَلِيِّهِ وَقَدِمَتْ عَلَيْهِمْ أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مُسْلِمَةً مُهَاجِرَةً فَجَاءَ أَخَوَاهَا يَطْلُبَانِهَا فَمَنَعَهَا مِنْهُمَا» وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَقَضَ الصُّلْحَ فِي النِّسَاءِ وَحَكَمَ فِيهِنَّ غَيْرَ حُكْمِهِ فِي الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا ذَهَبْت إلَى أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ رَدُّهُنَّ فِي الصُّلْحِ لَمْ يُعْطِ أَزْوَاجَهُنَّ فِيهِنَّ عِوَضًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهَا «إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ» قَرَأَ الرَّبِيعُ الْآيَةَ، وَمَنْ قَالَ‏:‏ إنَّ النِّسَاءَ كُنَّ فِي الصُّلْحِ قَالَ بِهَذِهِ الآيَةِ مَعَ الآيَةِ الَّتِي فِي بَرَاءَةَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَبِهَذِهِ الآيَةِ مَعَ الآيَةِ فِي بَرَاءَةَ قُلْنَا إذَا صَالَحَ الْإِمَامُ عَلَى مَا لاَ يَجُوزُ فَالطَّاعَةُ نَقْضُهُ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النِّسَاءِ، وَقَدْ أَعْطَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا حَفِظْنَا فِيهِنَّ مَا أَعْطَاهُمْ فِي الرِّجَالِ بِأَنْ لَمْ يُسْتَثْنَيْنَ وَأَنَّهُنَّ مِنْهُمْ وَبِالآيَةِ فِي بَرَاءَةَ‏.‏

وَبِهَذَا قُلْنَا‏:‏ إذَا ظَفِرَ الْمُشْرِكُونَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَخَذُوا عَلَيْهِ عُهُودًا وَأَيْمَانًا بِأَنْ يَأْتِيَهُمْ، أَوْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ بِكَذَا، أَوْ بِعَدَدِ أَسْرَى أَوْ مَالٍ فَحَلاَلٌ لَهُ أَنْ لاَ يُعْطِيَهُمْ قَلِيلاً وَلاَ كَثِيرًا؛ لِأَنَّهَا أَيْمَانُ مُكْرَهٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَى الْإِمَامُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ إنْ جَاءَهُ‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ قَائِلٌ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قِيلَ لَهُ‏:‏ «لَمْ يَمْنَعْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَصِيرٍ مِنْ وَلِيِّهِ حِينَ جَاءَاهُ فَذَهَبَا بِهِ فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا وَهَرَبَ الْآخَرُ مِنْهُ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» بَلْ قَالَ‏:‏ قَوْلاً يُشْبِهُ التَّحْسِينَ لَهُ، وَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي الْأَيْمَانِ؛ لِأَنَّهَا أَيْمَانُ مُكْرَهٍ وَحَرَامٌ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَرُدَّهُ إلَيْهِمْ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَلَوْ أَرَادَ هُوَ الرُّجُوعَ حَبَسَهُ، وَكَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا لَهُمْ مِمَّا صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَعْطَاهُمْ هَذَا فِي عَبْدٍ لَهُ، أَوْ مَتَاعٍ غُلِبُوا عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الشَّيْءَ يُعْطُونَهُ إيَّاهُ فَيَأْخُذُهُ الْإِمَامُ بِرَدِّ السَّلَفِ، أَوْ مِثْلِهِ، أَوْ قِيمَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ، وَلَوْ أَعْطَوْهُ إيَّاهُ بَيْعًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّهُ إلَيْهِمْ إنْ لَمْ يَكُنْ تَغَيَّرَ أَوْ يُعْطِيَهُمْ قِيمَتَهُ، أَوْ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ حِينَ اشْتَرَاهُ، وَهُوَ أَسِيرٌ فَلاَ يَلْزَمُهُ مَا اشْتَرَى وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْهُ مَا وَجَبَ لَهُمْ عَلَيْهِ بِمَا اشْتَرَاهُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَبِهَذَا قُلْنَا‏:‏ لَوْ أَعْطَى الْإِمَامُ قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ الْأَمَانَ عَلَى أَسِيرٍ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ جَاءُوهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إلَّا نَزْعَهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ بِلاَ عِوَضٍ لِمَا وَصَفْتُ مِنْ خِلاَفِ حَالِ الْأَسِيرِ وَأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ مَا أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ رَدِّ رِجَالِهِمْ الَّذِينَ هُمْ أَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ وَعَشَائِرُهُمْ الْمَمْنُوعِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ أَنْ يَنَالُوا بِتَلَفٍ فَإِنْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إلَى رَدِّ أَبِي جُنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ إلَى أَبِيهِ وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ إلَى أَهْلِهِ بِمَا أَعْطَاهُمْ قِيلَ‏:‏ لَهُ آبَاؤُهُمْ وَأَهْلُوهُمْ أَشْفَقُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ وَأَحْرَصُ عَلَى سَلاَمَتِهِمْ وَأَهْلِهِمْ كَانُوا سَيَقُونَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ مِمَّا يُؤْذِيهِمْ فَضْلاً عَنْ أَنْ يَكُونُوا مُتَّهَمِينَ عَلَى أَنْ يَنَالُوهُمْ بِتَلَفٍ، أَوْ أَمْرٍ لاَ يَحْمِلُونَهُ مِنْ عَذَابٍ، وَإِنَّمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ خِلاَفَهُمْ دِينَهُمْ وَدِينَ آبَائِهِمْ فَكَانُوا يَتَشَدَّدُونَ عَلَيْهِمْ لِيَتْرُكُوا دِينَ الْإِسْلاَمِ، وَقَدْ وَضَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ الْمَأْثَمَ فِي الْإِكْرَاهِ فَقَالَ‏:‏ «إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ» وَمَنْ أَسَرَ مُسْلِمًا مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهِ وَقَرَابَتِهِ، فَقَدْ يَقْتُلُهُ بِأَلْوَانِ الْقَتْلِ وَيَبْلُوهُ بِالْجُوعِ وَالْجَهْدِ، وَلَيْسَ حَالُهُمْ وَاحِدَةً، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا‏:‏ أَلاَ تَرَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَقَضَ الصُّلْحَ فِي النِّسَاءِ إذَا كُنَّ إذَا أُرِيدَ بِهِنَّ الْفِتْنَةُ ضَعُفْنَ عِنْدَ عَرْضِهَا عَلَيْهِنَّ، وَلَمْ يَفْهَمْنَ فَهْمَ الرِّجَالِ أَنَّ التَّقِيَّةَ تَسْعَهُنَّ فِي إظْهَارِ مَا أَرَادَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ فِيهِنَّ أَنْ يُصِيبَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ وَهُنَّ حَرَامٌ فَأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْحَالِ إلَّا أَنَّ الرِّجَالَ لَيْسَ مِمَّنْ يَنْكِحُ وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْمُشْرِكِينَ مَنْ يَفْعَلُ فِيمَا بَلَغْنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

جِمَاعُ الصُّلْحِ فِي الْمُؤْمِنَاتِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ‏}‏ قَرَأَ الرَّبِيعُ الْآيَةَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ وَكَانَ بَيِّنًا فِي الآيَةِ مَنْعُ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ مِنْ أَنْ يُرْدَدْنَ إلَى دَارِ الْكُفْرِ وَقَطْعُ الْعِصْمَةِ بِالْإِسْلاَمِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ، وَدَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ قَطْعَ الْعِصْمَةِ إذَا انْقَضَتْ عِدَدُهُنَّ، وَلَمْ يُسْلِمْ أَزْوَاجُهُنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ بَيِّنًا فِيهَا أَنْ يُرَدَّ عَلَى الْأَزْوَاجِ نَفَقَاتُهُمْ وَمَعْقُولٌ فِيهَا أَنَّ نَفَقَاتِهِمْ الَّتِي تُرَدُّ نَفَقَاتُ اللَّائِي مَلَكُوا عَقْدَهُنَّ وَهِيَ الْمُهُورُ إذَا كَانُوا قَدْ أَعْطَوْهُنَّ إيَّاهَا، وَبَيَّنَ أَنَّ الْأَزْوَاجَ الَّذِينَ يُعْطُونَ النَّفَقَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ الْمَمْنُوعُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَنَّ نِسَاءَهُمْ الْمَأْذُونُ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَوْهُنَّ أُجُورَهُنَّ؛ لِأَنَّهُ لاَ إشْكَالَ عَلَيْهِمْ فِي أَنْ يَنْكِحُوا غَيْرَ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ إنَّمَا كَانَ الْإِشْكَالُ فِي نِكَاحِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ حَتَّى قَطَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِصْمَةَ الْأَزْوَاجِ بِإِسْلاَمِ النِّسَاءِ وَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ بِمُضِيِّ الْعِدَّةِ قَبْلَ إسْلاَمِ الْأَزْوَاجِ فَلاَ يُؤْتَى أَحَدٌ نَفَقَتَهُ مِنْ امْرَأَةٍ فَاتَتْ إلَّا ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ‏}‏ فَأَبَانَهُنَّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَبَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ بِمُضِيِّ الْعِدَّةِ فَكَانَ الْحُكْمُ فِي إسْلاَمِ الزَّوْجِ الْحُكْمَ فِي إسْلاَمِ الْمَرْأَةِ لاَ يَخْتَلِفَانِ‏.‏ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا‏}‏ يَعْنِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ أَزْوَاجَ الْمُشْرِكَاتِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ إذَا مَنَعَهُمْ الْمُشْرِكُونَ إتْيَانَ أَزْوَاجِهِمْ بِالْإِسْلاَمِ أُوتُوا مَا دَفَعَ إلَيْهِنَّ الْأَزْوَاجُ مِنْ الْمُهُورِ كَمَا يُؤَدِّي الْمُسْلِمُونَ مَا دَفَعَ أَزْوَاجُ الْمُسْلِمَاتِ مِنْ الْمُهُورِ وَجَعَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حُكْمًا بَيْنَهُمْ ثُمَّ حَكَمَ لَهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى حُكْمًا ثَانِيًا، فَقَالَ عَزَّ وَعَلاَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ‏}‏ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ يُرِيدُ فَلَمْ تَعْفُوَا عَنْهُمْ إذَا لَمْ يَعْفُوَا عَنْكُمْ مُهُورَ نِسَائِكُمْ ‏{‏فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا‏}‏ كَأَنَّهُ يَعْنِي مِنْ مُهُورِهِنَّ إذَا فَاتَتْ امْرَأَةُ مُشْرِكٍ أَتَتْنَا مُسْلِمَةً قَدْ أَعْطَاهَا مِائَةً فِي مَهْرِهَا وَفَاتَتْ امْرَأَةٌ مُشْرِكَةٌ إلَى الْكُفَّارِ قَدْ أَعْطَاهَا مِائَةً حُسِبَتْ مِائَةُ الْمُسْلِمِ بِمِائَةِ الْمُشْرِكِ فَقِيلَ‏:‏ تِلْكَ الْعُقُوبَةُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَيَكْتُبُ بِذَلِكَ إلَى أَصْحَابِ عُهُودِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُعْطِيَ الْمُشْرِكُ مَا قَاصَصْنَاهُ بِهِ مِنْ مَهْرِ امْرَأَتِهِ لِلْمُسْلِمِ الَّذِي فَاتَتْ امْرَأَتُهُ إلَيْهِمْ لَيْسَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ لِلْمُسْلِمَةِ الَّتِي تَحْتَ مُشْرِكٍ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ رَدَّ الْإِمَامُ الْفَضْلَ عَنْ الْمِائَةِ إلَى الزَّوْجِ الْمُشْرِكِ، وَلَوْ كَانَ مَهْرُ الْمُسْلِمَةِ ذَاتِ الزَّوْجِ الْمُشْرِكِ مِائَتَيْنِ وَمَهْرُ امْرَأَةِ الْمُسْلِمِ الْفَائِتَةِ إلَى الْكُفَّارِ مِائَةً فَفَاتَتْ امْرَأَةٌ مُشْرِكَةٌ أُخْرَى قَصَّ مِنْ مَهْرِهَا مِائَةً وَلَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ مِمَّنْ فَاتَتْهُ زَوْجَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْمُشْرِكِينَ إلَّا قِصَاصًا مِنْ مُشْرِكٍ فَاتَتْ زَوْجَتُهُ إلَيْنَا، وَإِنْ فَاتَتْ زَوْجَةُ الْمُسْلِمِ مُسْلِمَةً، أَوْ مُرْتَدَّةً فَمَنَعُوهَا فَذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ فَاتَتْ عَلَى أَيِّ الْحَالَيْنِ كَانَ فَرَدُّوهَا لَمْ يُؤْخَذْ لِزَوْجِهَا مِنْهُمْ مَهْرٌ وَتُقْتَلُ إنْ لَمْ تُسْلِمْ إذَا ارْتَدَّتْ وَتُقَرُّ مَعَ زَوْجِهَا مُسْلِمَةً‏.‏

تَفْرِيعُ أَمْرِ نِسَاءِ الْمُهَادِنِينَ

أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ‏:‏ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ إذَا جَاءَتْ الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ مُسْلِمَةً مُهَاجِرَةً مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى مَوْضِعِ الْإِمَامِ مِنْ دَارِ الْإِسْلاَمِ أَوْ دَارِ الْحَرْبِ فَمَنْ طَلَبَهَا مِنْ وَلِيٍّ سِوَى زَوْجِهَا مُنِعَ مِنْهَا بِلاَ عِوَضٍ، وَإِذَا طَلَبَهَا زَوْجُهَا بِنَفْسِهِ أَوْ طَلَبَهَا غَيْرُهُ بِوَكَالَتِهِ مُنِعَهَا، وَفِيهَا قَوْلاَنِ أَحَدُهُمَا يُعْطَى الْعِوَضَ وَالْعِوَضُ مَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا‏}‏‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَمِثْلَ مَا أَنْفَقُوا يَحْتَمِلُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ مَا دَفَعُوا بِالصَّدَاقِ لاَ النَّفَقَةِ غَيْرُهُ، وَلاَ الصَّدَاقُ كُلُّهُ إنْ كَانُوا لَمْ يَدْفَعُوهُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَإِذَا جَاءَتْ امْرَأَةُ رَجُلٍ قَدْ نَكَحَهَا بِمِائَتَيْنِ فَأَعْطَاهَا مِائَةً رُدَّتْ إلَيْهِ مِائَةٌ، وَإِنْ نَكَحَهَا بِمِائَةٍ فَأَعْطَاهَا خَمْسِينَ رُدَّتْ إلَيْهِ خَمْسُونَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْخُذْ مِنْهُ مِنْ الصَّدَاقِ إلَّا خَمْسِينَ، وَإِنْ نَكَحَهَا بِمِائَةٍ، وَلَمْ يُعْطِهَا شَيْئًا مِنْ الصَّدَاقِ لَمْ تَرُدَّ إلَيْهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ بِالصَّدَاقِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْفَقَ مِنْ عُرْسٍ وَهَدِيَّةٍ وَكَرَامَةٍ لَمْ يُعْطِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِهِ، وَلاَ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا إنْ كَانَ زَادَهَا عَلَيْهِ، أَوْ نَقَصَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِأَنْ يُعْطُوا مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَيُعْطِي الزَّوْجُ هَذَا الصَّدَاقَ مِنْ سَهْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ» يَعْنِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ فِي مَصْلَحَتِكُمْ وَبِأَنَّ الْأَنْفَالَ كَانَتْ تَكُونُ عَنْهُ، وَأَنَّ عُمَرَ رَوَى أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْعَلُ فَضْلَ مَالِهِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلاَحِ عِدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ»‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ صَدَاقًا وَأَنْكَرَهُ الْإِمَامُ، أَوْ جَهِلَهُ، فَإِنْ جَاءَ الزَّوْجُ بِشَاهِدَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ شَاهِدٍ حَلَفَ مَعَهُ أَعْطَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَاهِدًا إلَّا مُشْرِكًا لَمْ يُعْطِهِ بِشَهَادَةِ مُشْرِكٍ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْأَلَ الْمَرْأَةَ فَإِنْ أَخْبَرَتْهُ شَيْئًا وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ، أَوْ صَدَّقَتْهُ لَمْ يَقْبَلْهُ الْإِمَامُ وَكَانَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فِي نَاحِيَتِهَا وَيُحَلِّفَهُ بِأَنَّهُ دَفَعَهُ ثُمَّ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ وَقَلَّ قَوْمٌ إلَّا وَمُهُورُهُمْ مَعْرُوفَةٌ مِمَّنْ مَعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْأَسْرَى وَالْمُسْتَأْمَنِينَ، أَوْ الْحَاضِرِينَ لَهُمْ، أَوْ الْمُصَالِحِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مُسْلِمُونَ مِنْهَا‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَإِنْ أَعْطَاهُ الْمَهْرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي بِلاَ بَيِّنَةٍ ثُمَّ أَقَامَ عِنْدَهُ شَاهِدًا أَنَّهُ أَكْثَرُ مِمَّا أَعْطَاهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالْفَضْلِ الَّذِي شَهِدَتْ لَهُ بِهِ الْبَيِّنَةُ، وَلَوْ أَعْطَاهُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي، أَوْ بِبَيِّنَةٍ ثُمَّ أَقَرَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَقَلُّ مِمَّا أَعْطَاهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالْفَضْلِ وَحَبَسَهُ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا نَقْضًا لِعَهْدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدُمُ زَوْجَهَا، وَلاَ رَسُولَهُ بِطَلَبِهَا حَتَّى مَاتَ فَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ فِيمَا أَنْفَقَ مِنْ صَدَاقِهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا فَلَمْ يَطْلُبْهُ إيَّاهُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ مَا أَنْفَقَ إذَا مَنَعَ رَدَّهَا إلَيْهِ، وَهُوَ لاَ يُقَالُ لَهُ مَمْنُوعٌ رَدُّهَا إلَيْهِ حَتَّى يَطْلُبَهَا فَيَمْنَعَ رَدَّهَا إلَيْهِ‏.‏

وَإِنْ قَدِمَ فِي طَلَبِهَا فَلَمْ يَطْلُبْهَا إلَى الْإِمَامِ حَتَّى مَاتَ كَانَ هَكَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَطْلُبْهَا إلَى الْإِمَامِ حَتَّى طَلَّقَهَا ثَلاَثًا، أَوْ مَلَّكَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلاَثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلاَثًا، أَوْ تَطْلِيقَةً لَمْ يَبْقَ لَهُ عَلَيْهَا مِنْ الطَّلاَقِ غَيْرَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عِوَضٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَطَعَ حَقَّهُ فِيهَا حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ وَهِيَ فِي عِدَّةٍ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ فَلاَ يَرُدُّ إلَيْهِ الْمَهْرَ مِنْ امْرَأَةٍ قَدْ قَطَعَ حَقَّهُ فِيهَا بِكُلِّ حَالٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَالَعَهَا قَبْلَ أَنْ يَرْتَفِعَ إلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ ثَبَتَ الْخُلْعُ وَكَانَتْ بَائِنًا مِنْهُ لاَ يُعْطَى مِنْ نَفَقَتِهِ شَيْءٌ مِنْ امْرَأَةٍ قَطَعَ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ بِحَالٍ، وَلَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ ثُمَّ طَلَبَ الْعِوَضَ لَمْ نُعْطِهِ حَتَّى يُرَاجِعَهَا فَإِنْ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَهَا ثُمَّ طَلَبَهَا أُعْطِيَ الْعِوَضَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ حَقَّهُ فِي الْعِوَضِ لاَ يَكُونُ قَطْعُهُ حَقَّهُ فِي الْعِوَضِ إلَّا بِأَنْ يُحْدِثَ طَلاَقًا لَوْ كَانَتْ سَاعَتَهَا تِلْكَ أَسْلَمَتْ وَأَسْلَمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ قَدِمَتْ غَيْرَ مُسْلِمَةٍ كَانَ هَذَا هَكَذَا‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلَوْ قَدِمَتْ مُسْلِمَةً وَجَاءَ زَوْجُهَا فَلَمْ يَطْلُبْهَا حَتَّى مَاتَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِوَضٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعَاوِضُ بِأَنْ يَمْنَعَهَا وَهِيَ بِحَضْرَةِ الْإِمَامِ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَلَمْ تَمُتْ، وَلَكِنْ غُلِبَتْ عَلَى عَقْلِهَا كَانَ لِزَوْجِهَا الْعِوَضُ، وَلَوْ قَدِمَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ كَانَ أَحَقَّ بِهَا، وَلَوْ قَدِمَ يَطْلُبُهَا مُشْرِكًا ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا كَانَتْ زَوْجَتَهُ وَرَجَعَ عَلَيْهِ بِالْعِوَضِ فَأُخِذَ مِنْهُ إنْ كَانَ أَخَذَهُ، وَلَوْ طَلَبَ الْعِوَضَ فَأُعْطِيَهُ ثُمَّ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَهُ الْعِوَضُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ مِنْهُ بِالْإِسْلاَمِ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ، وَلَوْ نَكَحَهَا بَعْدُ لَمْ نَرْجِعْ عَلَيْهِ بِالْعِوَضِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَكَهَا بِعَقْدٍ غَيْرِهِ؛ وَإِنْ قَدِمَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ، أَوْ غَيْرِهَا حَيْثُ يَنْفُذُ أَمْرُ الْإِمَامِ ثُمَّ جَاءَ زَوْجُهَا يَطْلُبُهَا إلَى الْإِمَامِ لَمْ يُعْطَ عِوَضًا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقْدُمْ عَلَيْهِ وَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَتْ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَمْنَعَهَا زَوْجَهَا وَمَتَى مَا صَارَتْ إلَى دَارِ الْإِمَامِ فَمَنَعَهَا مِنْهُ فَلَهُ الْعِوَضُ وَمَتَى طَلَبَهَا زَوْجُهَا وَهِيَ فِي دَارِ الْإِمَامِ فَجَاءَ زَوْجُهَا فَلَمْ يَرْفَعْهَا إلَى الْإِمَامِ حَتَّى تَنَحَّتْ عَنْ دَارِ الْإِمَامِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِوَضٌ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ لَهُ الْعِوَضُ بِأَنْ تُقِيمَ فِي دَارِ الْإِمَامِ، وَمَتَى طَلَبَهَا بَعْدَ مُدَّتِهَا، أَوْ مَغِيبِهَا عَنْ دَارِ الْإِمَامِ فَلاَ عِوَضَ لَهُ‏.‏

وَلَوْ قَدِمَتْ مُسْلِمَةً ثُمَّ ارْتَدَّتْ اُسْتُتِيبَتْ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ فَإِنْ قَدِمَ زَوْجُهَا بَعْدَ الْقَتْلِ، فَقَدْ فَاتَتْ، وَلاَ عِوَضَ، وَإِنْ قَدِمَ قَبْلَ أَنْ تَرْتَدَّ فَارْتَدَّتْ وَطَلَبَهَا لَمْ يُعْطَهَا وَأُعْطِيَ الْعِوَضَ وَاسْتُتِيبَتْ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ، وَإِنْ قَدِمَ وَهِيَ مُرْتَدَّةٌ قَبْلَ أَنْ تُقْتَلَ فَطَلَبَهَا أُعْطِيَ الْعِوَضُ وَقُتِلَتْ مَكَانَهَا، وَمَتَى طَلَبَهَا، فَقَدْ اسْتَوْجَبَ الْعِوَضَ؛ لِأَنَّ عَلَى الْإِمَامِ مَنْعَهُ مِنْهَا، وَإِنْ قَدِمَتْ وَطَلَبَهَا الزَّوْجُ ثُمَّ قَتَلَهَا رَجُلٌ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوْ الْعَقْلُ وَلِزَوْجِهَا الْعِوَضُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدِمَ، وَفِيهَا الْحَيَاةُ لَمْ تَمُتْ، وَإِنْ كَانَ يَرَى أَنَّهَا فِي آخِرِ رَمَقٍ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ إلَّا أَنْ تَكُونَ جَنَى عَلَيْهَا جِنَايَةً فَصَارَتْ فِي حَالٍ لاَ تَعِيشُ فِيهَا إلَّا كَمَا تَعِيشُ الذَّبِيحَةُ فَهِيَ فِي حَالِ الْمَيْتَةِ فَلاَ يُعْطَى فِيهَا عِوَضًا، وَإِذَا كَانَ عَلَى الْإِمَامِ مَنْعُهُ إيَّاهَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ بِأَنْ تَكُونَ فِي حُكْمِ الْحَيَاةِ كَانَ لَهُ الْعِوَضُ، وَلاَ يَسْتَوْجِبُ الْعِوَضَ بِحَالٍ إلَّا أَنْ يَطْلُبَهَا إلَى الْإِمَامِ، أَوْ وَالٍ يَخْلُفُهُ بِبَلَدِهِ فَإِنْ طَلَبَهَا إلَى مَنْ دُونَ الْإِمَامِ مِنْ عَامَّةِ، أَوْ خَاصَّةِ الْإِمَامِ، أَوْ وَالٍ مِمَّنْ لَمْ يُوَلِّهِ الْإِمَامُ هَذَا فَهَذَا لاَ يَكُونُ لَهُ بِهِ الْعِوَضُ، وَمَتَى وَصَلَ إلَى الْإِمَامِ طَلَبَهُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ فَلَهُ الْعِوَضُ، وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إلَى الْإِمَامِ ثُمَّ طَلَبَهَا إلَيْهِ فَلاَ عِوَضَ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْقَادِمَةُ مَمْلُوكَةً مُتَزَوِّجَةً رَجُلاً حُرًّا أَوْ مَمْلُوكًا أَمَرَ الْإِمَامُ بِاخْتِيَارِ فِرَاقِ الزَّوْجِ إنْ كَانَ مَمْلُوكًا، وَإِنْ كَانَ حُرًّا فَطَلَبَهَا، أَوْ مَمْلُوكًا فَلَمْ تَخْتَرْ فِرَاقَهُ حَتَّى قَدِمَ مُسْلِمًا فَهِيَ عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ قَدِمَ كَافِرًا فَطَلَبَهَا فَمَنْ قَالَ‏:‏ تُعْتَقُ، وَلاَ عِوَضَ لِمَوْلاَهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهُمْ فَلاَ عِوَضَ لِمَوْلاَهَا، وَلاَ لِزَوْجِهَا كَمَا لاَ يَكُونُ لِزَوْجِ الْمَرْأَةِ الْمَأْسُورَةِ فِيهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ عِوَضٌ، وَمَنْ قَالَ تُعْتَقُ وَيَرُدُّ الْإِمَامُ عَلَى سَيِّدِهَا قِيمَتَهَا فَلِزَوْجِهَا الْعِوَضُ إذَا كَانَ حُرًّا، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا فَلاَ عِوَضَ لَهُ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَ طَلَبُهُ وَطَلَبُ السَّيِّدِ فَيَطْلُبُ هُوَ امْرَأَتَهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَالسَّيِّدُ الْمَالَ مَعَ طَلَبِهِ، فَإِنْ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَلاَ عِوَضَ لَهُ‏.‏

وَإِنْ كَانَ هَذَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَجَاءَتْنَا امْرَأَةُ رَجُلٍ مِنْهُمْ مُشْرِكَةً، أَوْ امْرَأَةُ غَيْرِ كِتَابِيٍّ، وَهَذَا الْعَقْدُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَطَلَبَهَا زَوْجُهَا لَمْ يَكُنْ لَنَا مَنْعُهُ مِنْهَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ الْقَادِمُ أَوْ مَحْرَمًا لَهَا بِوَكَالَتِهِ إذَا سَأَلَتْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ الْقَادِمُ فَطَلَبَهَا زَوْجُهَا وَأَسْلَمَتْ أَعْطَيْنَاهُ الْعِوَضَ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ دَفَعْنَاهَا إلَيْهِ، وَلَوْ خَرَجَتْ امْرَأَةُ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَعْتُوهَةً مَنَعْنَا زَوْجَهَا مِنْهَا حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهَا، فَإِذَا ذَهَبَ فَإِنْ قَالَتْ خَرَجَتْ مُسْلِمَةً وَأَنَا أَعْقِلُ ثُمَّ عَرَضَ لِي، فَقَدْ وَجَبَ لَهُ الْعِوَضُ، وَإِنْ قَالَتْ خَرَجَتْ مَعْتُوهَةً ثُمَّ ذَهَبَ هَذَا عَنِّي فَأَنَا أُسْلِمُ مَنَعْنَاهَا مِنْهُ، وَإِنْ طَلَبَهَا يَوْمَئِذٍ أَعْطَيْنَاهُ الْعِوَضَ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهَا فَلاَ عِوَضَ لَهُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَإِنْ خَرَجَتْ إلَيْنَا مِنْهُمْ زَوْجَةُ رَجُلٍ لَمْ تَبْلُغْ، وَإِنْ عَقَلَتْ فَوَصَفَتْ الْإِسْلاَمَ مَنَعْنَاهَا مِنْهُ بِصِفَةِ الْإِسْلاَمِ، وَلاَ يُعْطَى حَتَّى تَبْلُغَ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَثَبَتَتْ عَلَى الْإِسْلاَمِ أَعْطَيْنَاهُ الْعِوَضَ إذَا طَلَبَهَا بَعْدَ بُلُوغِهَا وَثُبُوتِهَا عَلَى الْإِسْلاَمِ فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِوَضٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لاَ يَكْمُلُ إسْلاَمُهَا حَتَّى تُقْتَلَ عَلَى الرِّدَّةِ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَلَوْ جَاءَتْنَا جَارِيَةٌ لَمْ تَبْلُغْ فَوَصَفَتْ الْإِسْلاَمَ وَجَاءَ زَوْجُهَا وَطَلَبَهَا فَمَنَعْنَاهُ مِنْهَا فَبَلَغَتْ، وَلَمْ تَصِفْ الْإِسْلاَمَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَتَكُونُ مِنْ الَّذِينَ أُمِرْنَا إذَا عَلِمْنَا إيمَانَهُنَّ أَنْ لاَ نَدْفَعَهُنَّ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ فَمَتَى وَصَفَتْ الْإِسْلاَمَ بَعْدَ وَصْفِهَا الْإِسْلاَمَ وَالْبُلُوغَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِوَضٌ، وَكَذَلِكَ إنْ بَلَغَتْ مَعْتُوهَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ عِوَضٌ‏.‏

وَالْقَوْلُ الثَّانِي‏:‏ أَنَّ لَهُ الْعِوَضَ فِي كُلِّ حَالٍ مَنَعْنَاهَا مِنْهُ بِصِفَةِ الْإِسْلاَمِ، وَإِنْ كَانَتْ صَبِيَّةً، وَإِذَا جَاءَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ يَطْلُبُهَا فَلَمْ يَرْتَفِعْ إلَى الْإِمَامِ حَتَّى أَسْلَمَ، وَقَدْ خَرَجَتْ امْرَأَتُهُ مِنْ الْعِدَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِوَضٌ، وَلاَ عَلَى امْرَأَتِهِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّهُ لاَ يُمْنَعُ مِنْ امْرَأَتِهِ إذَا أَسْلَمَ إلَّا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَلَوْ كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا كَانَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا يُعْطِي الْعِوَضَ مَنْ يَمْنَعُ امْرَأَتَهُ، وَلَوْ قَدِمَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ طَلَبَهَا إلَى الْإِمَامِ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهَا حَتَّى ارْتَدَّتْ بَعْدَ إسْلاَمِهِ ثُمَّ طَلَبَ الْعِوَضَ لَمْ يَكُنْ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ صَارَ مِمَّنْ لاَ يَمْنَعُ امْرَأَتَهُ فَلاَ يَكُونُ لَهُ عِوَضٌ؛ لِأَنِّي أَمْنَعُهَا مِنْهُ بِالرِّدَّةِ، فَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا فَسَأَلَ الْعِوَضَ لَمْ يُعْطِهِ لِمَا وَصَفْت، وَلَوْ قَدِمَتْ مُسْلِمَةً ثُمَّ ارْتَدَّتْ ثُمَّ طَلَبَ مِنْهَا الْإِسْلاَمَ الْأَوَّلَ وَيُمْنَعُ مِنْهَا بِالرِّدَّةِ، وَإِنْ رَجَعَتْ إلَى الْإِسْلاَمِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا وَإِنْ رَجَعَتْ بَعْدَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ وَالْعِصْمَةُ مُنْقَطِعَةٌ بَيْنَهُمَا فَلاَ عِوَضَ وَكُلُّ مَا وَصَفْتُ فِيهِ الْعِوَضُ فِي قَوْلِ مَنْ رَأَى أَنْ يُعْطِيَ الْعِوَضَ، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ لاَ يُعْطَى الزَّوْجُ الْمُشْرِكُ الَّذِي جَاءَتْ زَوْجَتُهُ مُسْلِمَةً الْعِوَضَ، وَلَوْ شَرَطَ الْإِمَامُ بِرَدِّ النِّسَاءِ كَانَ الشَّرْطُ مُنْتَقَضًا وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ‏:‏ إنْ «شَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ إذْ دَخَلَ فِيهِ أَنْ يَرُدَّ مَنْ جَاءَهُ مِنْهُمْ» وَكَانَ النِّسَاءُ مِنْهُمْ كَانَ شَرْطًا صَحِيحًا فَنَسَخَهُ اللَّهُ ثُمَّ رَسُولُهُ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِيمَا نَسَخَ مِنْهُ الْعِوَضَ وَلَمَّا قَضَى اللَّهُ ثُمَّ رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لاَ تُرَدَّ النِّسَاءُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ رَدُّهُنَّ، وَلاَ عَلَيْهِ عِوَضٌ فِيهِنَّ؛ لِأَنَّ شَرْطَ مَنْ شَرَطَ رَدَّ النِّسَاءَ بَعْدَ نَسْخِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ رَسُولُهُ لَهَا بَاطِلٌ، وَلاَ يُعْطَى بِالشَّرْطِ الْبَاطِلِ شَيْءٌ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَمَنْ قَالَ‏:‏ هَذَا لَمْ يَرُدَّ مَمْلُوكًا بِحَالٍ، وَلاَ يُعْطِيهِمْ فِيهِ عِوَضًا وَأَشْبَهَهُمَا أَنْ لاَ يُعْطُوا عِوَضًا وَالْآخَرُ كَمَا وَصَفْتُ يُعْطُونَ فِيهِ الْعِوَضَ، وَمَنْ قَالَ‏:‏ هَذَا لاَ نَرُدُّ إلَى أَزْوَاجِ الْمُشْرِكِينَ عِوَضًا لَمْ يَأْخُذْ لِلْمُسْلِمِينَ فِيمَا فَاتَ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ عِوَضًا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْقِدَ هَذَا الْعَقْدَ إلَّا الْخَلِيفَةُ، أَوْ رَجُلٌ بِأَمْرِ الْخَلِيفَةِ؛ لِأَنَّهُ يَلِي الْأَمْوَالَ كُلَّهَا فَمَنْ عَقَدَهُ غَيْرُ خَلِيفَةٍ فَعَقْدُهُ مَرْدُودٌ، وَإِنْ جَاءَتْ فِيهِ امْرَأَةٌ، أَوْ رَجُلٌ لَمْ يُرَدَّ لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يُعْطُوا عِوَضًا وَنَبَذَ إلَيْهِمْ، وَإِذَا عَقَدَ الْخَلِيفَةُ فَمَاتَ، أَوْ عُزِلَ وَاسْتُخْلِفَ غَيْرُهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ لَهُمْ بِمَا عَقَدَ لَهُمْ الْخَلِيفَةُ قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ عَلَى وَالِي الْأَمْرِ بَعْدَهُ إنْفَاذُهُ إلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَإِنْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ فَمَنْ قَدِمَ مِنْ رَجُلٍ، أَوْ امْرَأَةٍ لَمْ يَرُدَّهُ، وَلَمْ يُعْطِ عِوَضًا وَكَانُوا كَأَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ قَدِمَ عَلَيْنَا نِسَاؤُهُمْ وَرِجَالُهُمْ مُسْلِمِينَ فَنَقْبَلُهُمْ، وَلاَ نُعْطِي أَحَدًا عِوَضًا مِنْ امْرَأَتِهِ فِي قَوْلِ مَنْ أَعْطَى الْعِوَضَ‏.‏

فَإِنْ هَادَنَّاهُمْ عَلَى التَّرْكِ سَنَةً فَقَدِمَتْ عَلَيْنَا امْرَأَةُ رَجُلٍ مِنْهُمْ وَكَانَ الَّذِينَ هَادَنُونَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِمَّنْ دَانَ دِينَهُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْفُرْقَانِ وَأَسْلَمُوا فِي دَارِهِمْ أَوْ أَعْطَوْا الْجِزْيَةَ ثُمَّ جَاءُونَا يَطْلُبُونَ رِجَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ قِيلَ‏:‏ قَدْ انْقَضَتْ الْهُدْنَةُ وَخَيْرٌ لَكُمْ دُخُولُكُمْ فِي الْإِسْلاَمِ وَهَؤُلاَءِ رِجَالُكُمْ فَإِنْ أَحَبُّوا رَجَعُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَقَامُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا انْصَرَفُوا، وَلَوْ نَقَضُوا الْعَهْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لَمْ يُعْطُوا عِوَضًا مِنْ امْرَأَةِ رَجُلٍ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَرُدَّ إلَيْهِمْ مِنْهُمْ مُسْلِمٌ وَهَكَذَا لَوْ هَادَنَّا قَوْمًا هَكَذَا وَأَتَانَا رِجَالُهُمْ فَخَلَّيْنَا بَيْنَ أَوْلِيَائِهِمْ وَبَيْنَهُمْ ثُمَّ نَقَضُوا الْعَهْدَ كَانَ لَنَا إخْرَاجُهُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَعَلَيْنَا طَلَبُهُمْ حَتَّى نُخْرِجَهُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْعَهْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ وَسَقَطَ الشَّرُّ‏.‏

وَهَكَذَا لَوْ هَادَنَّا مَنْ لاَ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ فِي كُلِّ مَا وَصَفْته إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَأْخُذَ الْجِزْيَةَ، وَإِذَا هَادَنَّا قَوْمًا رَدَدْنَا إلَيْهِمْ مَا فَاتَ إلَيْنَا مِنْ بَهَائِمِ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْتِعَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَهَائِمِ حُرْمَةٌ يُمْنَعْنَ بِهَا مِنْ أَنْ نُصَيِّرَهَا إلَى مُشْرِكٍ، وَكَذَلِكَ الْمَتَاعُ، وَإِنْ صَارَتْ فِي يَدِ بَعْضِنَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَيِّرَهَا إلَيْهِمْ، وَلَوْ اسْتَمْتَعَ بِهَا وَاسْتَهْلَكَهَا كَانَ كَالْغَصْبِ يَلْزَمُهُ لَهُمْ مَا يَلْزَمُ الْغَاصِبَ مِنْ كِرَاءٍ إنْ كَانَ لَهَا وَقِيمَةُ مَا هَلَكَ مِنْهَا فِي أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قِيمَتُهُ‏.‏

إذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابَ صُلْحٍ عَلَى الْجِزْيَةِ كَتَبَ‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم هَذَا كِتَابٌ كَتَبَهُ عَبْدُ اللَّهِ فُلاَنٌ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ رَبِيعِ الْأَوَّلِ سَنَةَ كَذَا وَكَذَا لِفُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ النَّصْرَانِيِّ مِنْ بَنِي فُلاَنٍ السَّاكِنِ بَلَدَ كَذَا وَأَهْلُ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِ كَذَا إنَّك سَأَلْتَنِي أَنْ أُؤَمِّنَك وَأَهْلَ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِ كَذَا وَأَعْقِدَ لَك وَلَهُمْ مَا يُعْقَدُ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ عَلَى مَا أَعْطَيْتنِي وَشَرَطْتُ لَك وَلَهُمْ وَعَلَيْك وَعَلَيْهِمْ فَأَجَبْتُك إلَى أَنْ عَقَدْت لَك وَلَهُمْ عَلَيَّ وَعَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الْأَمَانُ مَا اسْتَقَمْتَ وَاسْتَقَامُوا بِجَمِيعِ مَا أَخَذْنَا عَلَيْكُمْ وَذَلِكَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْكُمْ حُكْمُ الْإِسْلاَمِ لاَ حُكْمُ خِلاَفِهِ بِحَالٍ يُلْزِمُكُمُوهُ، وَلاَ يَكُونُ لَكُمْ أَنْ تَمْتَنِعُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ رَأَيْنَاهُ نُلْزِمُكُمْ بِهِ وَعَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ إنْ ذَكَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ دِينَهُ بِمَا لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَهُ بِهِ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ ثُمَّ ذِمَّةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ وَنَقَضَ مَا أُعْطِيَ عَلَيْهِ الْأَمَانُ وَحَلَّ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَالُهُ وَدَمُهُ كَمَا تَحِلُّ أَمْوَالُ أَهْلِ الْحَرْبِ دِمَاؤُهُمْ‏.‏

وَعَلَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ رِجَالِكُمْ إنْ أَصَابَ مُسْلِمَةً بِزِنًا، أَوْ اسْمِ نِكَاحٍ أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقِ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ، أَوْ أَعَانَ الْمُحَارِبِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقِتَالٍ، أَوْ دَلاَلَةٍ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِيوَاءٍ لِعُيُونِهِمْ، فَقَدْ نَقَضَ عَهْدَهُ وَأَحَلَّ دَمَهُ وَمَالَهُ، وَإِنْ نَالَ مُسْلِمًا بِمَا دُونَ هَذَا فِي مَالِهِ أَوْ عِرْضِهِ، أَوْ نَالَ بِهِ مَنْ عَلَى مُسْلِمٍ مَنْعُهُ مِنْ كَافِرٍ لَهُ عَهْدٌ، أَوْ أَمَانٌ لَزِمَهُ فِيهِ الْحُكْمُ وَعَلَى أَنْ نَتَتَبَّعَ أَفْعَالَكُمْ فِي كُلِّ مَا جَرَى بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُسْلِمٍ فَمَا كَانَ لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ مِمَّا لَكُمْ فِيهِ فِعْلٌ رَدَدْنَاهُ وَعَاقَبْنَاكُمْ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنْ تَبِيعُوا مُسْلِمًا بَيْعًا حَرَامًا عِنْدَنَا مِنْ خَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، أَوْ دَمِ مَيْتَةٍ أَوْ غَيْرِهِ وَنُبْطِلُ الْبَيْعَ بَيْنَكُمْ فِيهِ وَنَأْخُذُ ثَمَنَهُ مِنْكُمْ إنْ أَعْطَاكُمُوهُ، وَلاَ نَرُدُّهُ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ قَائِمًا ونهريقه إنْ كَانَ خَمْرًا، أَوْ دَمًا وَنُحَرِّقهُ إنْ كَانَ مَيْتَةً، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ لَمْ نَجْعَلْ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْئًا وَنُعَاقِبْكُمْ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنْ لاَ تُسْقُوهُ، أَوْ تُطْعِمُوهُ مُحَرَّمًا أَوْ تُزَوِّجُوهُ بِشُهُودٍ مِنْكُمْ، أَوْ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ عِنْدَنَا وَمَا بَايَعْتُمْ بِهِ كَافِرًا مِنْكُمْ، أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ لَمْ نَتَّبِعْكُمْ فِيهِ، وَلَمْ نَسْأَلْكُمْ عَنْهُ مَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ‏.‏

وَإِذَا أَرَادَ الْبَائِعُ مِنْكُمْ، أَوْ الْمُبْتَاعُ نَقْضَ الْبَيْعِ وَأَتَانَا طَالِبًا لَهُ فَإِنْ كَانَ مُنْتَقِضًا عِنْدَنَا نَقَضْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَجَزْنَاهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا قَبَضَ الْمَبِيعَ وَفَاتَ لَمْ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ بَيْنَ مُشْرِكَيْنِ مَضَى وَمَنْ جَاءَنَا مِنْكُمْ، أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ يُحَاكِمُكُمْ أَجْرَيْنَاكُمْ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلاَمِ وَمَنْ لَمْ يَأْتِنَا لَمْ نَعْرِضْ لَكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، وَإِذَا قَتَلْتُمْ مُسْلِمًا، أَوْ مُعَاهِدًا مِنْكُمْ، أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ خَطَأً فَالدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِكُمْ كَمَا تَكُونُ عَلَى عَوَاقِلِ الْمُسْلِمِينَ وَعَوَاقِلُكُمْ قَرَابَاتُكُمْ مِنْ قِبَلِ آبَائِكُمْ، وَإِنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ رَجُلٌ لاَ قَرَابَةَ لَهُ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَإِذَا قَتَلَهُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ إلَّا أَنْ تَشَاءَ وَرَثَتُهُ دِيَةٌ فَيَأْخُذُونَهَا حَالَّةً، وَمَنْ سَرَقَ مِنْكُمْ فَرَفَعَهُ الْمَسْرُوقُ إلَى الْحَاكِمِ قَطَعَهُ إذَا سَرَقَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ وَغَرِمَ، وَمَنْ قَذَفَ فَكَانَ لِلْمَقْذُوفِ حَدٌّ حُدَّ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَدٌّ عُزِّرَ حَتَّى تَكُونَ أَحْكَامُ الْإِسْلاَمِ جَارِيَةً عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْمَعَانِي فِيمَا سَمَّيْنَا، وَلَمْ نُسَمِّ‏.‏

وَعَلَى أَنْ لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تُظْهِرُوا فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ الصَّلِيبَ، وَلاَ تُعْلِنُوا بِالشِّرْكِ، وَلاَ تَبْنُوا كَنِيسَةً، وَلاَ مَوْضِعَ مُجْتَمَعٍ لِصَلاَتِكُمْ، وَلاَ تَضْرِبُوا بِنَاقُوسٍ، وَلاَ تُظْهِرُوا قَوْلَكُمْ بِالشِّرْكِ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَلاَ فِي غَيْرِهِ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَتَلْبَسُوا الزَّنَانِيرَ مِنْ فَوْقِ جَمِيعِ الثِّيَابِ الْأَرْدِيَةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى لاَ تَخْفَى الزَّنَانِيرُ وَتُخَالِفُوا بِسُرُوجِكُمْ وَرُكُوبِكُمْ وَتُبَايِنُوا بَيْنَ قَلاَنِسِكُمْ وَقَلاَنِسِهِمْ بِعَلَمٍ تَجْعَلُونَهُ بِقَلاَنِسِكُمْ وَأَنْ لاَ تَأْخُذُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ سَرَوَاتِ الطُّرُقِ، وَلاَ الْمَجَالِسِ فِي الْأَسْوَاقِ وَأَنْ يُؤَدِّيَ كُلُّ بَالِغٍ مِنْ أَحْرَارِ رِجَالِكُمْ غَيْرُ مَغْلُوبٍ عَلَى عَقْلِهِ جِزْيَةَ رَأْسِهِ دِينَارًا مِثْقَالاً جَيِّدًا فِي رَأْسِ كُلِّ سَنَةٍ لاَ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَغِيبَ عَنْ بَلَدِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ، أَوْ يُقِيمَ بِهِ مَنْ يُؤَدِّيهِ عَنْهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ جِزْيَةِ رَقَبَتِهِ إلَى رَأْسِ السَّنَةِ وَمَنْ افْتَقَرَ مِنْكُمْ فَجِزْيَتُهُ عَلَيْهِ حَتَّى تُؤَدَّى عَنْهُ وَلَيْسَ الْفَقْرُ بِدَافِعٍ عَنْكُمْ شَيْئًا، وَلاَ نَاقِضٍ لِذِمَّتِكُمْ عَنْ مَا بِهِ فَمَتَى وَجَدْنَا عِنْدَكُمْ شَيْئًا أُخِذْتُمْ بِهِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْكُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ سِوَى جِزْيَتِكُمْ مَا أَقَمْتُمْ فِي بِلاَدِكُمْ وَاخْتَلَفْتُمْ بِبِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ تُجَّارٍ وَلَيْسَ لَكُمْ دُخُولُ مَكَّةَ بِحَالٍ، وَإِنْ اخْتَلَفْتُمْ بِتِجَارَةٍ عَلَى أَنْ تُؤَدُّوا مِنْ جَمِيعِ تِجَارَاتِكُمْ الْعُشْرَ إلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَكُمْ دُخُولُ جَمِيعِ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا مَكَّةَ وَالْمُقَامُ بِجَمِيعِ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا شِئْتُمْ إلَّا الْحِجَازَ فَلَيْسَ لَكُمْ الْمُقَامُ بِبَلَدٍ مِنْهَا إلَّا ثَلاَثَ لَيَالٍ حَتَّى تَظْعَنُوا مِنْهُ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ أَنْبَتَ الشَّعْرُ تَحْتَ ثِيَابِهِ، أَوْ احْتَلَمَ، أَوْ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَبْلَ ذَلِكَ فَهَذِهِ الشُّرُوطُ لاَزِمَةٌ لَهُ إنْ رَضِيَهَا فَإِنْ لَمْ يَرْضَهَا فَلاَ عَقْدَ لَهُ، وَلاَ جِزْيَةَ عَلَى أَبْنَائِكُمْ الصِّغَارِ، وَلاَ صَبِيٍّ غَيْرِ بَالِغٍ وَمَغْلُوبٍ عَلَى عَقْلِهِ، وَلاَ مَمْلُوكٍ، فَإِذَا أَفَاقَ الْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ وَعَتَقَ الْمَمْلُوكُ مِنْكُمْ فَدَانَ دِينَكُمْ فَعَلَيْهِ جِزْيَتُكُمْ وَالشَّرْطُ عَلَيْكُمْ وَعَلَى مَنْ رَضِيَهُ وَمَنْ سَخِطَهُ مِنْكُمْ نَبَذْنَا إلَيْهِ وَلَكُمْ أَنْ نَمْنَعَكُمْ وَمَا يَحِلُّ مِلْكُهُ عِنْدَنَا لَكُمْ مِمَّنْ أَرَادَكُمْ مِنْ مُسْلِمٍ، أَوْ غَيْرِهِ بِظُلْمٍ بِمَا نَمْنَعُ بِهِ أَنْفُسَنَا وَأَمْوَالَنَا وَنَحْكُمُ لَكُمْ فِيهِ عَلَى مَنْ جَرَى حُكْمُنَا عَلَيْهِ بِمَا نَحْكُمُ بِهِ فِي أَمْوَالِنَا وَمَا يَلْزَمُ الْمَحْكُومَ فِي أَنْفُسِكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَ لَكُمْ شَيْئًا مَلَكْتُمُوهُ مُحَرَّمًا مِنْ دَمٍ، وَلاَ مَيْتَةٍ، وَلاَ خَمْرٍ، وَلاَ خِنْزِيرٍ كَمَا نَمْنَعُ مَا يَحِلُّ مِلْكُهُ، وَلاَ نَعْرِضُ لَكُمْ فِيهِ إلَّا أَنَّا لاَ نَدَعَكُمْ تُظْهِرُونَهُ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَمَا نَالَهُ مِنْهُ مُسْلِمٌ، أَوْ غَيْرُهُ لَمْ نُغَرِّمْهُ ثَمَنَهُ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَلاَ ثَمَنَ لِمُحَرَّمٍ وَنَزْجُرُهُ عَنْ الْعَرْضِ لَكُمْ فِيهِ فَإِنْ عَادَ أُدِّبَ بِغَيْرِ غَرَامَةٍ فِي شَيْءٍ مِنْهُ‏.‏

وَعَلَيْكُمْ الْوَفَاءُ بِجَمِيعِ مَا أَخَذْنَا عَلَيْكُمْ وَأَنْ لاَ تَغْشَوْا مُسْلِمًا، وَلاَ تُظَاهِرُوا عَدُوَّهُمْ عَلَيْهِمْ بِقَوْلٍ، وَلاَ فِعْلٍ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ وَأَعْظَمُ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ مِنْ الْوَفَاءِ بِالْمِيثَاقِ وَلَكُمْ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ وَذِمَّةُ فُلاَنٍ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ بِالْوَفَاءِ لَكُمْ، وَعَلَى مَنْ بَلَغَ مِنْ أَبْنَائِكُمْ مَا عَلَيْكُمْ بِمَا أَعْطَيْنَاكُمْ مَا وَفَّيْتُمْ بِجَمِيعِ مَا شَرَطْنَا عَلَيْكُمْ فَإِنْ غَيَّرْتُمْ أَوْ بَدَّلْتُمْ فَذِمَّةُ اللَّهِ ثُمَّ ذِمَّةُ فُلاَنٍ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ بَرِيئَةٌ مِنْكُمْ وَمَنْ غَابَ عَنْ كِتَابِنَا مِمَّنْ أَعْطَيْنَاهُ مَا فِيهِ فَرَضِيَهُ إذَا بَلَغَهُ فَهَذِهِ الشُّرُوطُ لاَزِمَةٌ لَهُ وَلَنَا فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَرْضَ نَبَذْنَا إلَيْهِ‏.‏ شُهِدَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ ضِيَافَةً، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْجِزْيَةِ كَتَبَ فِي أَثَرِ قَوْلِهِ‏:‏ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْكُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ غَيْرَ الدِّينَارِ فِي السَّنَةِ وَالضِّيَافَةِ عَلَى مَا سَمَّيْنَا فَكُلُّ مَنْ مَرَّ بِهِ مُسْلِمٌ، أَوْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْزِلَهُ فِي فَضْلِ مَنَازِلِهِ فِيمَا يُمْكِنُهُ مِنْ حَرٍّ، أَوْ بَرْدٍ لَيْلَةً وَيَوْمًا، أَوْ ثَلاَثًا إنْ شَرَطُوا ثَلاَثًا وَيُطْعِمُهُ مِنْ نَفَقَةِ عَامَّةِ أَهْلِهِ مِثْلَ الْخُبْزِ وَالْخَلِّ وَالْجُبْنِ وَاللَّبَنِ وَالْحِيتَانِ وَاللَّحْمِ وَالْبُقُولِ الْمَطْبُوخَةِ وَيَعْلِفُهُ دَابَّةً وَاحِدَةً تِبْنًا، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي مَكَانِهِ فَإِنْ أَقَامَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضِيَافَةٌ، وَلاَ عَلَفُ دَابَّةٍ وَعَلَى الْوَسَطِ أَنْ يُنْزِلَ كُلَّ مَنْ مَرَّ بِهِ رَجُلَيْنِ وَثَلاَثَةً لاَ يَزِيدُ عَلَيْهِمْ وَيَصْنَعُ لَهُمْ مَا وَصَفْت وَعَلَى الْمُوسِعِ أَنْ يُنْزِلَ كُلَّ مَنْ مَرَّ بِهِ مَا بَيْنَ ثَلاَثَةٍ إلَى سِتَّةٍ لاَ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلاَ يَصْنَعُونَ بِدَوَابِّهِمْ إلَّا مَا وَصَفْت إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعُوا لَهُمْ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ قَلَّتْ الْمَارَّةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُفَرِّقُهُمْ وَعَدَلُوا فِي تَفْرِيقِهِمْ‏.‏

فَإِنْ كَثُرَ الْجَيْشُ حَتَّى لاَ يَحْتَمِلَهُمْ مَنَازِلُ أَهْلِ الْغِنَى، وَلاَ يَجِدُونَ مَنْزِلاً أَنْزَلَهُمْ أَهْلُ الْحَاجَةِ فِي فَضْلِ مَنَازِلِهِمْ وَلَيْسَتْ عَلَيْهِمْ ضِيَافَةٌ فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا فَضْلاً مِنْ مَنَازِلِ أَهْلِ الْحَاجَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ وَيَنْزِلُوا مَنَازِلَهُمْ وَإِذَا كَثُرُوا وَقَلَّ مَنْ يُضَيِّفُهُمْ فَأَيُّهُمْ سَبَقَ إلَى النُّزُولِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ جَاءُوا مَعًا أَقْرَعُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا وَغَلَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ضُيِّفَ الْغَالِبُ، وَلاَ ضِيَافَةَ عَلَى أَحَدٍ أَكْثَرَ مِمَّا وَصَفْت، فَإِذَا نَزَلُوا بِقَوْمٍ آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَحْبَبْت أَنْ يَدَعَ الَّذِينَ قَرَوْا الْقِرَى وَيُقْرِيَ الَّذِينَ لَمْ يُقْرُوا، فَإِذَا ضَاقَ عَلَيْهِمْ الْأَمْرُ فَإِنْ لَمْ يُقْرِهِمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمْ ثَمَنًا لِلْقِرَى، فَإِذَا مَضَى الْقِرَى لَمْ يُؤْخَذُوا بِهِ إذَا سَأَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، وَلاَ يَأْخُذُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ثِمَارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلاَ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، وَإِذَا لَمْ يَشْتَرِطُوا عَلَيْهِمْ ضِيَافَةً فَلاَ ضِيَافَةَ عَلَيْهِمْ وَأَيُّهُمْ قَالَ أَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا وَصَفْته نَقْضًا لِلْعَهْدِ وَأَسْلَمَ لَمْ يُقْتَلْ إذَا كَانَ ذَلِكَ قَوْلاً، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِعْلاً لَمْ يُقْتَلْ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ إنْ فَعَلَهُ قُتِلَ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا فَيُقْتَلُ بِحَدٍّ، أَوْ قِصَاصٍ لاَ نَقْضَ عَهْدٍ، وَإِنْ فَعَلَ مَا وَصَفْنَا وَشَرَطَ أَنَّهُ نَقَضَ لِعَهْدِ الذِّمَّةِ فَلَمْ يُسْلِمْ، وَلَكِنَّهُ قَالَ‏:‏ أَتُوبُ وَأُعْطِي الْجِزْيَةَ كَمَا كُنْت أُعْطِيهَا، أَوْ عَلَى صُلْحٍ أُجَدِّدُهُ عُوقِبَ، وَلَمْ يُقْتَلْ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَعَلَ فِعْلاً يُوجِبُ الْقِصَاصَ بِقَتْلٍ، أَوْ قَوَدٍ فَأَمَّا مَا دُونَ هَذَا مِنْ الْفِعْلِ، أَوْ الْقَوْلِ وَكُلُّ قَوْلٍ فَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُقْتَلُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله‏:‏ فَإِنْ فَعَلَ، أَوْ قَالَ مَا وَصَفْنَا وَشَرَطَ أَنَّهُ يَحِلُّ دَمُهُ فَظَفِرْنَا بِهِ فَامْتَنَعَ مِنْ أَنْ يَقُولَ أَسْلَمَ، أَوْ أَعْطَى جِزْيَةً قُتِلَ وَأُخِذَ مَالُهُ فَيْئًا‏.‏

الصُّلْحُ عَلَى أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ فَكَانَ مَعْقُولاً فِي الآيَةِ أَنْ تَكُونَ الْجِزْيَةُ غَيْرَ جَائِزَةٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ إلَّا مَعْلُومًا ثُمَّ دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِثْلِ مَعْنَى مَا وَصَفْت مِنْ أَنَّهَا مَعْلُومٌ فَأَمَّا مَا لَمْ يُعْلَمْ أَقَلُّهُ، وَلاَ أَكْثَرُهُ، وَلاَ كَيْفَ أَخَذَ مَنْ أَخَذَهُ مِنْ الْوُلاَةِ لَهُ، وَلاَ مَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ فَلَيْسَ فِي مَعْنَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ نُوقَفُ عَلَى حَدِّهِ‏.‏

أَلاَ تَرَى إنْ قَالَ‏:‏ أَهْلُ الْجِزْيَةِ نُعْطِيكُمْ فِي كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ دِرْهَمًا وَقَالَ‏:‏ الْوَالِي بَلْ آخُذُ مِنْكُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ دِينَارًا لَمْ يَقُمْ عَلَى أَحَدٍ هَذَا، وَلاَ يَجُوزُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَسْتَنَّ فِيهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَأْخُذُ بِأَقَلَّ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ يَكُونُ لِوَالٍ أَنْ يَقْبَلَ أَقَلَّ مِنْهُ، وَلاَ يَرُدَّهُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مَعْلُومَةً، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ أَخَذَهَا دِينَارًا وَازْدَادَ فِيهَا ضِيَافَةً فَأَخَذَ مِنْ كُلِّ إنْسَانٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ دِينَارًا وَمِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ مِثْلَهُ وَأَخَذَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ كِسْوَةً وَأَعْلَمَنِي عُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِهَا أَنَّهَا تَتَجَاوَزُ قِيمَةُ دِينَارٍ، وَلَمْ يَجُزْ فِي الآيَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ لاَ عَلَى بَعْضِ الْبَالِغِينَ دُونَ بَعْضٍ مِنْ أَهْلِ دِينٍ وَاحِدٍ فَلاَ يَجُوزُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنْ تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ مِنْ قَوْمٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى مَعْنَى تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ بِلاَ ثَنْيٍ عَلَيْهِمْ فِيهَا وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ جَازَ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ لاَ مَالَ لَهُ تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ مِنْ عُرُوضٍ وَدُورٍ كَغَلَّةٍ وَغَيْرِهَا فَيَكُونُونَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا مُقِرِّينَ عَلَى دِينِهِمْ بِلاَ جِزْيَةٍ، وَلَمْ يُبَحْ هَذَا لَنَا، وَلاَ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ رِجَالِهِمْ خَلِيًّا مِنْ الْجِزْيَةِ‏.‏

وَيَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الْجِزْيَةِ عَلَى مَا صَالَحُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ تَضْعِيفَ صَدَقَةٍ، أَوْ عُشْرٍ أَوْ رُبْعٍ، أَوْ نِصْفٍ، أَوْ نِصْفِ أَمْوَالِهِمْ أَوْ أَثْلاَثِهَا، أَوْ ثِنْيٍ أَنْ يُقَالَ‏:‏ مَنْ كَانَ لَهُ مِنْكُمْ مَالٌ أَخَذَ مِنْهُ مَا شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ وَشَرَطُوا لَهُ مَا كَانَ يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي السَّنَةِ تَكُونُ قِيمَتُهُ دِينَارًا أَوْ أَكْثَرَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَجِبُ فِيهِ مَا شَرَطَ، أَوْ هُوَ أَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ دِينَارٍ فَعَلَيْهِ دِينَارٌ، أَوْ تَمَامُ دِينَارٍ، وَإِنَّمَا اخْتَرْت هَذَا أَنَّهَا جِزْيَةٌ مَعْلُومَةُ الْأَقَلِّ وَأَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ خَلِيٌّ مِنْهَا قَالَ‏:‏ وَلاَ يَفْسُدُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يَتَرَاضَيَانِ بِهِ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا فَيَفْسُدُ بِمَا تَفْسُدُ بِهِ الْبُيُوعُ كَمَا لَمْ يَفْسُدْ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ الضِّيَافَةَ، وَقَدْ تَتَابَعَ عَلَيْهِمْ فَتَلْزَمُهُمْ وَتَغِبُّ فَلاَ تَلْزَمُهُمْ بِإِغْبَابِهَا شَيْءٌ‏.‏

قَالَ وَلَعَلَّ عُمَرَ أَنْ يَكُونَ صَالَحَ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ عَلَى تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ وَأَدْخَلَ هَذَا الشَّرْطَ، وَإِنْ لَمْ يُحْكَ عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَبَى أَنْ يُقِرَّ الْعَرَبُ إلَّا عَلَى الْجِزْيَةِ فَأَنِفُوا مِنْهَا، وَقَالُوا تَأْخُذُهَا مِنَّا عَلَى مَعْنَى الصَّدَقَةِ مُضَعَّفَةً كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْعَرَبِ الْمُسْلِمِينَ فَأَبَى فَلَحِقَتْ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ بِالرُّومِ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَأَجَابَهُمْ إلَى تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ فَصَالَحَهُ مَنْ بَقِيَ فِي بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ عَلَيْهَا فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَيْهَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْت مِنْ الثَّنِيِّ‏.‏

كِتَابُ الْجِزْيَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ

أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ كِتَابًا عَلَى الْجِزْيَةِ بِشَرْطِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ كَتَبَ‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم هَذَا كِتَابٌ كَتَبَهُ عَبْدُ اللَّهِ فُلاَنٌ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لِفُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ النَّصْرَانِيِّ مِنْ بَنِي فُلاَنٍ الْفُلاَنِيِّ مِنْ أَهْلِ بَلَدِ كَذَا وَأَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِ كَذَا أَنَّك سَأَلْتنِي لِنَفْسِك وَأَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِ كَذَا أَنْ أَعْقِدَ لَك وَلَهُمْ عَلَيَّ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا يُعْقَدُ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ عَلَى مَا شَرَطْت عَلَيْك وَعَلَيْهِمْ وَلَك وَلَهُمْ فَأَجَبْتُك إلَى مَا سَأَلْت لَكُمْ وَلِمَنْ رَضِيَ مَا عَقَدْت مِنْ أَهْلِ بَلَدِ كَذَا عَلَى مَا شَرَطْنَا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَذَلِكَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْكُمْ حُكْمُ الْإِسْلاَمِ لاَ حُكْمُ خِلاَفِهِ وَلاَ يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْكُمْ الِامْتِنَاعُ مِمَّا رَأَيْنَاهُ لاَزِمًا لَهُ فِيهِ وَلاَ مُجَاوَزًا بِهِ ثُمَّ يُجْرِي الْكِتَابَ عَلَى مِثْلِ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ لِأَهْلِ الْجِزْيَةِ الَّتِي هِيَ ضَرِيبَةٌ لاَ تَزِيدُ وَلاَ تَنْقُصُ فَإِذَا انْتَهَى إلَى مَوْضِعِ الْجِزْيَةِ كَتَبَ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ مِنْكُمْ إبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ أَوْ كَانَ ذَا زَرْعٍ أَوْ عَيْنِ مَالٍ أَوْ تَمْرٍ يَرَى فِيهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَنْ كَانَ لَهُ مِنْهُمْ فِيهِ الصَّدَقَةُ أُخِذَتْ جِزْيَتُهُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ مُضَعَّفَةً وَذَلِكَ أَنْ تَكُونَ غَنَمُهُ أَرْبَعِينَ فَتُؤْخَذَ مِنْهُ فِيهَا شَاتَانِ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً أُخِذَتْ فِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ إلَى مِائَتَيْنِ فَإِذَا زَادَتْ شَاةٌ عَلَى مِائَتَيْنِ أُخِذَتْ فِيهَا سِتُّ شِيَاهٍ إلَى أَنْ تَبْلُغَ ثَلاَثَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعَمِائَةٍ أُخِذَ فِيهَا ثَمَانُ شِيَاهٍ ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَكْمُلَ مِائَةً ثُمَّ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مِائَةٍ مِنْهَا شَاتَانِ وَمِنْ كَانَ مِنْكُمْ ذَا بَقَرٍ فَبَلَغَتْ بَقَرُهُ ثَلاَثِينَ فَعَلَيْهِ فِيهَا تَبِيعَانِ ثُمَّ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَعَلَيْهِ فِيهَا مُسِنَّتَانِ ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَتْبِعَةٍ ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا إلَى ثَمَانِينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ مُسِنَّاتٍ ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعِينَ‏.‏

فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا سِتَّةُ أَتْبِعَةٍ ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ مِائَةً فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَعَلَيْهِ فِيهَا مُسِنَّتَانِ وَأَرْبَعَةُ أَتْبِعَةٍ ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ مِائَةً وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَعَلَيْهِ فِيهَا أَرْبَعُ مُسِنَّاتٍ وَتَبِيعَانِ ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ مِائَةً وَعِشْرِينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَعَلَيْهِ فِيهَا سِتُّ مُسِنَّاتٍ ثُمَّ يُجْرِي الْكِتَابَ بِصَدَقَةِ الْبَقَرِ مُضَعَّفَةً ثُمَّ يَكْتُبُ فِي صَدَقَةِ الْإِبِلِ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ إبِلٌ فَلاَ شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَعَلَيْهِ فِيهَا شَاتَانِ ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ عَشْرًا فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَعَلَيْهِ فِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَعَلَيْهِ فِيهَا سِتُّ شِيَاهٍ ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ عِشْرِينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَعَلَيْهِ فِيهَا ثَمَانُ شِيَاهٍ ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَعَلَيْهِ فِيهَا ابْنَتَا مَخَاضٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا ابْنَتَا مَخَاضٍ فَابْنَا لَبُونٍ ذَكَرَانِ‏.‏

وَإِنْ كَانَتْ لَهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ وَاحِدَةٌ وَابْنُ لَبُونٍ وَاحِدٌ أُخِذَتْ بِنْتُ الْمَخَاضِ وَابْنُ اللَّبُونِ ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ سِتًّا وَثَلاَثِينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَعَلَيْهِ فِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَعَلَيْهِ فِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ إحْدَى وَسِتِّينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا جَذَعَتَانِ ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ سِتًّا وَسَبْعِينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ إحْدَى وَتِسْعِينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ حَقَائِقَ ثُمَّ ذَلِكَ فَرْضُهَا حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ طَرَحَ هَذَا وَعُدَّتْ فَكَانَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مِنْهَا ابْنَتَا لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ مُبَاحًا وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي مَالِ مَنْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ مِنْ الْإِبِلِ السِّنُّ الَّتِي شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ تُؤْخَذَ فِي سِتٍّ وَثَلاَثِينَ فَصَاعِدًا فَجَاءَ بِهَا قُبِلَتْ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا فَالْخِيَارُ إلَى الْإِمَامِ بِأَنْ يَأْخُذَ السِّنَّ الَّتِي دُونَهَا وَيُغَرِّمُهُ فِي كُلِّ بَعِيرٍ لَزِمَهُ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَيَّهُمَا شَاءَ الْإِمَامُ أَخَذَهُ بِهِ وَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ أَخَذَ السِّنَّ الَّتِي فَوْقَهَا وَرَدَّ إلَيْهِ فِي كُلِّ بَعِيرٍ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَيَّهُمَا شَاءَ الْإِمَامُ فَعَلَ وَأَعْطَاهُ إيَّاهُ، وَإِذَا اخْتَارَ الْإِمَامُ أَنْ يَأْخُذَ السِّنَّ الْعُلْيَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْإِمَامُ الْفَضْلَ أَعْطَاهُ الْإِمَامُ أَيَّهُمَا كَانَ أَيْسَرَ نَقْدًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا اخْتَارَ أَنْ يَأْخُذَ السِّنَّ الْأَدْنَى وَيَغْرَمَ لَهُ صَاحِبُ الْإِبِلِ فَالْخِيَارُ إلَى صَاحِبِ الْإِبِلِ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ شَاتَيْنِ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا‏.‏

وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ ذَا زَرْعٍ يَقْتَاتُ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ ذُرَةٍ أَوْ دُخْنٍ أَوْ أَرُزٍّ أَوْ قُطْنِيَّةٍ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ فِيهِ شَيْءٌ حَتَّى يَبْلُغَ زَرْعُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ يَصِفُ الْوَسْقَ فِي كِتَابِهِ بِمِكْيَالٍ يَعْرِفُونَهُ فَإِذَا بَلَغَهَا زَرْعُهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُسْقَى بِغَرْبٍ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُسْقَى بِنَهْرٍ أَوْ سَيْحٍ أَوْ عَيْنِ مَاءٍ أَوْ نِيلٍ فَفِيهِ الْخُمُسُ‏.‏

وَمِنْ كَانَ مِنْهُمْ ذَا ذَهَبٍ فَلاَ جِزْيَةَ عَلَيْهِ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ ذَهَبُهُ عِشْرِينَ مِثْقَالاً فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَعَلَيْهِ فِيهَا دِينَارٌ نِصْفُ الْعُشْرِ وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ‏.‏

وَمَنْ كَانَ ذَا وَرِقٍ فَلاَ جِزْيَةَ عَلَيْهِ فِي وَرِقِهِ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَزْنَ سَبْعَةٍ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ فِيهَا نِصْفُ الْعُشْرِ ثُمَّ مَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ رِكَازًا فَعَلَيْهِ خُمُسَاهُ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ بَالِغًا مِنْكُمْ دَاخِلاً فِي الصُّلْحِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ عِنْدَ الْحَوْلِ يَجِبُ عَلَى مُسْلِمٍ لَوْ كَانَ لَهُ فِيهِ زَكَاةٌ أَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَجِبُ فِيهِ عَلَى مُسْلِمٍ لَوْ كَانَ لَهُ الزَّكَاةُ فَأَخَذْنَا مِنْهُ مَا شَرَطْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ قِيمَةَ مَا أَخَذْنَا مِنْهُ دِينَارًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْنَا دِينَارًا إنْ لَمْ نَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا وَتَمَامَ دِينَارٍ إنْ نَقَصَ مَا أَخَذْنَا مِنْهُ عَنْ قِيمَةِ دِينَارٍ وَعَلَى أَنَّ مَا صَالَحْتُمُونَا عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ مَنْ بَلَغَ غَيْرَ مَغْلُوبٍ عَلَى عَقْلِهِ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَى بَالِغٍ مَغْلُوبٍ عَلَى عَقْلِهِ وَلاَ صَبِيٍّ وَلاَ امْرَأَةٍ‏.‏

قَالَ‏:‏ ثُمَّ يُجْرِي الْكِتَابَ كَمَا أَجْرَيْت الْكِتَابَ قَبْلَهُ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى آخِرِهِ وَإِنْ شَرَطْت عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ قِيمَةَ أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ كَتَبْتَ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ كَانَ أَوْ أَكْثَرَ وَإِذَا شَرَطْتَ عَلَيْهِمْ ضِيَافَةً كَتَبْتهَا عَلَى مَا وَصَفْت عَلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ قَبْلَهُ وَإِنْ أَجَابُوك إلَى أَكْثَرَ مِنْهَا فَاجْعَلْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَلاَ بَأْسَ فِيهِمْ وَفِيمَنْ وَقَّتَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى الْفَقِيرِ مِنْهُمْ كَذَا وَلاَ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ وَمَنْ جَاوَزَ الْفَقْرَ كَذَا لِشَيْءٍ أَكْثَرَ مِنْهُ وَمَنْ دَخَلَ فِي الْغِنَى كَذَا لِأَكْثَرَ مِنْهُ وَيَسْتَوُونَ إذَا أُخِذَتْ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ هُمْ وَجَمِيعُ مَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ جِزْيَةٌ مُؤَقَّتَةٌ فِيمَا شُرِطَتْ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ وَمَا يَجْرِي مِنْ حُكْمِ الْإِسْلاَمِ عَلَى كُلٍّ، وَإِذَا شَرَطَ عَلَى قَوْمٍ أَنَّ عَلَى فَقِيركُمْ دِينَارًا وَعَلَى مَنْ جَاوَزَ الْفَقْرَ وَلَمْ يُلْحِقْ بِغَنِيٍّ مَشْهُورٍ دِينَارَيْنِ وَعَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى الْمَشْهُورِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ جَازَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنُهُ فَيَقُولَ وَإِنَّمَا أَنْظُرُ إلَى الْفَقْرِ وَالْغِنَى يَوْمَ تَحِلُّ الْجِزْيَةُ لاَ يَوْمَ عَقْدِ الْكِتَابِ، فَإِذَا صَالَحَهُمْ عَلَى هَذَا فَاخْتَلَفَ الْإِمَامُ وَمَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ فَقَالَ الْإِمَامُ لِأَحَدِهِمْ أَنْتَ غَنِيٌّ مَشْهُورُ الْغِنَى وَقَالَ بَلْ أَنَا فَقِيرٌ أَوْ وَسَطٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ غَيْرُ مَا قَالَ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَنِيٌّ لِأَنَّهُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ، وَإِذَا صَالَحَهُمْ عَلَى هَذَا فَجَاءَ الْحَوْلُ وَرَجُلٌ فَقِيرٌ فَلَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ جِزْيَتُهُ حَتَّى يُوسِرَ يُسْرًا مَشْهُورًا أُخِذَتْ جِزْيَتُهُ دِينَارًا عَلَى الْفَقْرِ لِأَنَّ الْفَقْرَ حَالُهُ يَوْمَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَكَذَلِكَ إنْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَهُوَ مَشْهُورُ الْغِنَى فَلَمْ تُؤْخَذْ جِزْيَتُهُ حَتَّى افْتَقَرَ أُخِذَتْ جِزْيَتُهُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ عَلَى حَالِهِ يَوْمَ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ لَهُ إلَّا تِلْكَ الْأَرْبَعَةُ الدَّنَانِيرِ فَإِنْ أَعْسَرَ بِبَعْضِهَا أُخِذَ مِنْهُ مَا وُجِدَ لَهُ مِنْهَا وَاتُّبِعَ بِمَا بَقِيَ دَيْنًا عَلَيْهِ وَأُخِذَتْ جِزْيَتُهُ مَا كَانَ فَقِيرًا فِيمَا اسْتَأْنَفَ دِينَارًا لِكُلِّ سَنَةٍ عَلَى الْفَقْرِ وَلَوْ كَانَ فِي الْحَوْلِ مَشْهُورَ الْغِنَى حَتَّى إذَا كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ افْتَقَرَ أُخِذَتْ جِزْيَتُهُ فِي عَامِهِ ذَلِكَ جِزْيَةَ فَقِيرٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي حَوْلِهِ فَقِيرًا فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ صَارَ مَشْهُورًا بِالْغِنَى أُخِذَتْ جِزْيَتُهُ جِزْيَةَ غَنِيٍّ‏.‏

الضِّيَافَةُ مَعَ الْجِزْيَةِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ لَسْت أُثْبِتُ مَنْ جَعَلَ عُمَرَ عَلَيْهِ الضِّيَافَةَ ثَلاَثًا وَلاَ مَنْ جَعَلَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلاَ مَنْ جَعَلَ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ وَلَمْ يُسَمِّ عَلَيْهِ ضِيَافَةً بِخَبَرِ عَامَّةٍ وَلاَ خَاصَّةٍ يَثْبُتُ وَلاَ أَحَدِ الَّذِينَ وَلُوا الصُّلْحَ عَلَيْهَا بِأَعْيَانِهِمْ لِأَنَّهُمْ قَدْ مَاتُوا كُلُّهُمْ وَأَيُّ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْيَوْمَ أَقَرُّوا أَوْ قَامَتْ عَلَى أَسْلاَفِهِمْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ صُلْحَهُمْ كَانَ عَلَى ضِيَافَةٍ مَعْلُومَةٍ وَأَنَّهُمْ رَضُوهَا بِأَعْيَانِهِمْ أُلْزِمُوهَا وَلاَ يَكُونُ رِضَاهُمْ الَّذِي أُلْزِمُوهُ إلَّا بِأَنْ يَقُولُوا صَالَحَنَا عَلَى أَنْ نُعْطِيَ كَذَا وَنُضَيِّفَ كَذَا وَإِنْ قَالُوا أَضَفْنَا تَطَوُّعًا بِلاَ صُلْحٍ لَمْ أُلْزِمْهُمُوهُ وَأُحَلِّفْهُمْ مَا ضَيَّفُوا عَلَى إقْرَارٍ بِصُلْحٍ وَكَذَلِكَ إنْ أَعْطَوْا كَثِيرًا أَحَلَفْتهمْ مَا أَعْطَوْهُ عَلَى إقْرَارٍ بِصُلْحٍ فَإِذَا حَلَفُوا جَعَلْتُهُمْ كَقَوْمٍ ابْتَدَأْت أَمْرَهُمْ الْآنَ فَإِنْ أَعْطَوْا أَقَلَّ الْجِزْيَةِ وَهُوَ دِينَارٌ قَبِلْته وَإِنْ أَبَوْا نَبَذْت إلَيْهِمْ وَحَارَبْتهمْ وَأَيُّهُمْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ فِي صُلْحِهِ وَأَنْكَرَهُ مِنْهُمْ غَيْرُهُ أَلْزَمْته مَا أَقَرَّ بِهِ وَلَمْ أَجْعَلْ إقْرَارَهُ لاَزِمًا لِغَيْرِهِ إلَّا بِأَنْ يَقُولُوا صَلَحْنَا عَلَى أَنْ نُعْطِيَ كَذَا وَنُضَيِّفَ كَذَا فَأَمَّا إذَا قَالُوا أَضَفْنَا تَطَوُّعًا بِلاَ صُلْحٍ فَلاَ أُلْزِمُهُمُوهُ قَالَ وَيَأْخُذُهُمْ الْإِمَامُ بِعِلْمِهِ وَإِقْرَارِهِمْ وَبِالْبَيِّنَةِ إنْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ نُجِيزُ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَكَذَلِكَ نَصْنَعُ فِي كُلِّ أَمْرٍ غَيْرِ مُؤَقَّتٍ مِمَّا صَالَحُوا عَلَيْهِ وَفِي كُلِّ مُؤَقَّتٍ لَمْ يَعْرِفْهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالْإِقْرَارِ بِهِ وَإِذَا أَقَرَّ قَوْمٌ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ يَجُوزُ لِلْوَالِي أَخْذُهُ أُلْزِمُهُمُوهُ مَا حَيُوا وَأَقَامُوا فِي دَارِ الْإِسْلاَمِ وَإِذَا صَالَحُوا عَلَى شَيْءٍ أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَمْتَنِعُوا إلَّا مِنْ أَدَاءِ دِينَارٍ أَلْزَمَهُمْ مَا صَالَحُوا عَلَيْهِ كَامِلاً فَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْهُ حَارَبَهُمْ فَإِنْ دَعَوْا قَبْلَ أَنْ يُظْهَرَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ إلَى أَنْ يُعْطُوا الْإِمَامَ الْجِزْيَةَ دِينَارًا لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُمْ وَجَعَلَهُمْ كَقَوْمٍ ابْتَدَأَ مُحَارَبَتَهُمْ فَدَعَوْهُ إلَى الْجِزْيَةِ أَوْ قَوْمٍ دَعَوْهُ إلَى الْجِزْيَةِ بِلاَ حَرْبٍ فَإِذَا أَقَرَّ مِنْهُمْ قَرْنٌ بِشَيْءٍ صَالَحُوا عَلَيْهِ أَلْزَمَهُمُوهُ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ غَائِبٌ لَمْ يَحْضُرْ لَمْ يُلْزِمْهُ وَإِذَا حَضَرَ أَلْزَمَ مَا أَقَرَّ بِهِ مِمَّا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ وَإِذَا نَشَأَ أَبْنَاؤُهُمْ فَبَلَغُوا الْحُلُمَ أَوْ اسْتَكْمَلُوا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُقِرُّوا بِمَا أَقَرَّ بِهِ آبَاؤُهُمْ قِيلَ إنْ أَدَّيْتُمْ الْجِزْيَةَ وَإِلَّا حَارَبْنَاكُمْ فَإِنْ عَرَضُوا أَقَلَّ الْجِزْيَةِ وَقَدْ أَعْطَى آبَاؤُهُمْ أَكْثَرَ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نُقَاتِلَهُمْ إذَا أَعْطَوْا أَقَلَّ الْجِزْيَةِ وَلاَ يَحْرُمُ عَلَيْنَا أَنْ يُعْطُونَا أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطِينَا آبَاؤُهُمْ وَلاَ يَكُونُ صُلْحُ الْآبَاءِ صُلْحًا عَلَى الْأَبْنَاءِ إلَّا مَا كَانُوا صِغَارًا لاَ جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ أَوْ نِسَاءً لاَ جِزْيَةَ عَلَيْهِنَّ أَوْ مَعْتُوهِينَ لاَ جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَجُزْ لَنَا إقْرَارُهُ فِي بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ إلَّا عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُ فَلاَ يَكُونُ صُلْحُ أَبِيهِ وَلاَ غَيْرِهِ صُلْحًا عَنْهُ إلَّا بِرِضَاهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَمَنْ كَانَ سَفِيهًا بَالِغًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ مِنْهُمْ صَالَحَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَمْرِ وَلِيِّهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَلِيُّهُ وَهُوَ مَعًا حُورِبَ فَإِنْ غَابَ وَلِيُّهُ جَعَلَ لَهُ السُّلْطَانُ وَلِيًّا يُصَالِحُ عَنْهُ فَإِنْ أَبَى الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ الصُّلْحَ حَارَبَهُ وَإِنْ أَبَى وَلِيُّهُ وَقَبِلَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ جُبِرَ وَلِيُّهُ أَنْ يَدْفَعَ الْجِزْيَةَ عَنْهُ لِأَنَّهَا لاَزِمَةٌ إذَا أَقَرَّ بِهَا لِأَنَّهَا مِنْ مَعْنَى النَّظَرِ لَهُ لِئَلَّا يُقْتَلَ وَيُؤْخَذَ مَالُهُ فَيْئًا وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا وَكَانَ مَنْ صَالَحَهُمْ مِمَّنْ مَضَى الْأَئِمَّةُ بِأَعْيَانِهِمْ قَدْ مَاتُوا فَحَقُّ الْإِمَامِ أَنْ يَبْعَثَ أُمَنَاءَ فَيَجْمَعُونَ الْبَالِغِينَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي كُلِّ بَلَدٍ ثُمَّ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ صُلْحِهِمْ فَمَا أَقَرُّوا بِهِ مِمَّا هُوَ أَزْيَدُ مِنْ أَقَلِّ الْجِزْيَةِ قَبْلَهُ مِنْهُمْ إلَّا أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِمْ بَيِّنَةٌ بِأَكْثَرَ مِنْهُ مَا لَمْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ فَيُلْزِمُهُ مِنْهُمْ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَيُسْأَلُ عَمَّنْ نَشَأَ مِنْهُمْ فَمَنْ بَلَغَ عَرَضَ عَلَيْهِ قَبُولَ مَا صَالَحُوا عَلَيْهِ فَإِنْ فَعَلَ قَبِلَهُ مِنْهُ وَإِنْ امْتَنَعَ إلَّا مِنْ أَقَلِّ الْجِزْيَةِ قَبِلَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يَجْتَهِدَ بِالْكَلاَمِ عَلَى اسْتِزَادَتِهِ وَيَقُولُ هَذَا صُلْحُ أَصْحَابِك فَلاَ تَمْتَنِعُ مِنْهُ وَيَسْتَظْهِرُ بِالِاسْتِعَانَةِ بِأَصْحَابِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ أَبَى إلَّا أَقَلَّ الْجِزْيَةِ قَبِلَهُ مِنْهُ فَإِنْ اُتُّهِمَ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَلَغَ وَلَمْ يُقِرَّ عِنْدَهُ بِأَنْ قَدْ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ قَدْ احْتَلَمَ وَلَمْ يَقُمْ بِذَلِكَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ مُسْلِمُونَ أَقَلُّ مَنْ يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ شَاهِدَانِ عَدْلاَنِ كَشَفَهُ كَمَا «كَشَفَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي قُرَيْظَةَ فَمَنْ أَنْبَتَ قَتَلَهُ» فَإِذَا أَنْبَتَ قَالَ لَهُ إنْ أَدَّيْت الْجِزْيَةَ وَإِلَّا حَارَبْنَاك فَإِنْ قَالَ أَنْبَتَ مِنْ أَنِّي تَعَالَجْت بِشَيْءٍ تَعَجَّلَ إنْبَاتَ الشَّعْرِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَقُومَ شَاهِدَانِ مُسْلِمَانِ عَلَى مِيلاَدِهِ فَيَكُونَ لَمْ يَسْتَكْمِلْ خَمْسَ عَشْرَةَ فَيَدَعْهُ، وَلاَ يَقْبَلُ لَهُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ شَهَادَةَ غَيْرِ مُسْلِمٍ عَدْلٍ وَيَكْتُبُ أَسْمَاءَهُمْ وَحِلاَهُمْ فِي الدِّيوَانِ وَيُعَرِّفُ عَلَيْهِمْ وَيُحَلَّفُ عُرَفَاؤُهُمْ لاَ يَبْلُغُ مِنْهُمْ مَوْلُودٌ إلَّا رَفَعَهُ إلَى وَالِيهِ عَلَيْهِمْ وَلاَ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ إلَّا رَفَعُوا إلَيْهِ فَكُلَّمَا دَخَلَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صُلْحٌ وَكَانَ مِمَّنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ فَعَلَ بِهِ كَمَا وَصَفْت فِيمَنْ فَعَلَ وَكُلَّمَا بَلَغَ مِنْهُمْ بَالِغٌ فَعَلَ بِهِ مَا وَصَفْت‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَإِنْ دَخَلَ مَنْ لَهُ صُلْحٌ أَلْزَمْته صُلْحَهُ وَمَتَى أُخِذَ مِنْهُ صُلْحُهُ رَفَعَ عَنْهُ أَنْ تُؤْخَذَ عَنْهُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ فَإِنْ كَانَ صَالَحَ عَلَى دِينَارٍ وَقَدْ كَانَ لَهُ صُلْحٌ قَبْلَهُ عَلَى أَكْثَرَ أُخِذَ مِنْهُ مَا بَقِيَ مِنْ الْفَضْلِ عَلَى الدِّينَارِ لِأَنَّهُ صَالَحَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ صُلْحُهُ الْأُوَلُ عَلَى دِينَارٍ بِبَلَدِهِ ثُمَّ صَالَحَ بِبَلَدِ غَيْرِهِ عَلَى دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ قِيلَ لَهُ إنْ شِئْت رَدَدْنَا عَلَيْك الْفَضْلَ عَمَّا صَالَحْت عَلَيْهِ أَوَّلاً إلَّا أَنْ يَكُونَ نَقَضَ الْعَهْدَ ثُمَّ أَحْدَثَ صُلْحًا فَيَكُونَ صُلْحُهُ الْآخَرُ كَانَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ الصُّلْحِ الْأَوَّلِ وَمَتَى مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ أُخِذَتْ مِنْ مَالِهِ الْجِزْيَةُ بِقَدْرِ مَا مَرَّ عَلَيْهِ مِنْ سَنَتِهِ كَأَنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ نِصْفُهَا لَمْ يُؤَدِّهَا يُؤْخَذُ نِصْفُ جِزْيَتِهِ وَإِنْ عَتَهَ رُفِعَ عَنْهُ الْجِزْيَةُ مَا كَانَ مَعْتُوهًا فَإِذَا أَفَاقَ أَخَذْتهَا مِنْهُ مِنْ يَوْمِ أَفَاقَ فَإِنْ جُنَّ فَكَانَ يُجَنُّ وَيُفِيقُ وَلَمْ تُرْفَعْ الْجِزْيَةُ لِأَنَّ هَذَا مِمَّنْ تَجْرِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ وَكَذَلِكَ إنْ مَرِضَ فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَيَّامًا ثُمَّ عَادَ إنَّمَا تُرْفَعُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ إذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ فَلَمْ يَعُدْ وَأَيُّهُمْ أَسْلَمَ رُفِعَتْ عَنْهُ الْجِزْيَةُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ وَأُخِذَتْ لِمَا مَضَى وَإِنْ غَابَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ أَسْلَمْت مِنْ وَقْتِ كَذَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِخِلاَفِ مَا قَالَ‏.‏

قَالَ الرَّبِيعُ وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ مِنْ حِينِ غَابَ إلَى أَنْ قَدِمَ فَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ مُسْلِمٌ إلَّا أَنْ تَقُومَ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ إسْلاَمَهُ قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْنَا بِوَقْتٍ فَيُؤْخَذَ بِالْبَيِّنَةِ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَإِذَا أَسْلَمَ ثُمَّ تَنَصَّرَ لَمْ يُؤْخَذْ الْجِزْيَةُ وَإِنْ أُخِذَتْ رُدَّتْ وَقِيلَ إنْ أَسْلَمْت وَإِلَّا قُتِلْت وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إنْ أَسْلَمَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ قَالَ وَيُبَيِّنُ وَزْنَ الدِّينَارِ وَالدَّنَانِيرُ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَكَذَلِكَ صِفَةُ كُلِّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَإِنْ صَالَحَ أَحَدُهُمْ وَهُوَ صَحِيحٌ فَمَرَّتْ بِهِ نِصْفُ سَنَةٍ ثُمَّ عَتِهَ إلَى آخِرِ السَّنَةِ ثُمَّ أَفَاقَ أَوْ لَمْ يُفِقْ أُخِذَتْ مِنْهُ جِزْيَةُ نِصْفِ السَّنَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا صَحِيحًا وَمَتَى أَفَاقَ اُسْتُقْبِلَ بِهِ مِنْ يَوْمِ أَفَاقَ سَنَةً ثُمَّ أُخِذَتْ جِزْيَتُهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ صَالَحَ فَلَزِمَهُ الْجِزْيَةُ ثُمَّ عَتِهَ فَسَقَطَتْ عَنْهُ وَإِنْ طَابَتْ نَفْسُهُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا سَاعَةَ أَفَاقَ قُبِلَتْ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ تَطِبْ لَمْ يَلْزَمْهَا إلَّا بَعْدَ الْحَوْلِ وَإِذَا عَتَقَ الْعَبْدُ الْبَالِغُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أُخِذَتْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ أَوْ نُبِذَ إلَيْهِ وَسَوَاءٌ أَعْتَقَهُ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ‏.‏

الضِّيَافَةُ فِي الصُّلْحِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَإِذَا أَقَرَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِضِيَافَةٍ فِي صُلْحِهِمْ وَرَضُوا بِهَا فَعَلَى الْإِمَامِ مَسْأَلَتُهُمْ عَنْهَا وَقَبُولُ مَا قَالُوا أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُ مِنْهَا إذَا كَانَتْ زِيَادَةً عَلَى أَقَلِّ الْجِزْيَةِ وَلاَ تُقْبَلُ مِنْهُمْ وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَيْهَا بِحَالٍ حَتَّى تَكُونَ زِيَادَةً عَلَى أَقَلِّ الْجِزْيَةِ فَإِنْ أَقَرُّوا بِأَنْ يُضَيِّفُوا مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ ثَلاَثًا أَوْ أَكْثَرَ وَقَالُوا مَا حَدَّدْنَا فِي هَذَا حَدًّا أُلْزِمُوا أَنْ يُضَيِّفُوا مِنْ وَسَطِ مَا يَأْكُلُونَ خُبْزًا وَعَصِيدَةً وَإِدَامًا مِنْ زَيْتٍ أَوْ لَبَنٍ أَوْ سَمْنٍ أَوْ بُقُولٍ مَطْبُوخَةٍ أَوْ حِيتَانٍ أَوْ لَحْمٍ أَوْ غَيْرِهِ أَيُّ هَذَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ وَإِذَا أَقَرُّوا بِعَلَفِ دَوَابَّ وَلَمْ يُحَدِّدُوا شَيْئًا عَلَفُوا التِّبْنَ وَالْحَشِيشَ مِمَّا تَحُشَّاهُ الدَّوَابُّ وَلاَ يُبَيِّنُ أَنْ يُلْزَمُوا حَبًّا لِدَوَابَّ وَلاَ مَا جَاوَزَ أَقَلَّ مَا تَعْلِفُهُ الدَّوَابُّ إلَّا بِإِقْرَارِهِمْ وَلاَ يَجُوزُ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الرَّجُلِ مِنْهُمْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ضِيَافَةٌ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَحْتَمِلُ أَنْ احْتَمَلَ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً وَلاَ يَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلاَثَةٍ وَإِنْ أَيْسَرَ إلَّا بِإِقْرَارِهِمْ وَيُؤْخَذُ بِأَنْ يُنَزِّلَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُضَيِّفُهُمْ حَيْثُ يَشَاءُ مِنْ مَنَازِلِهِ الَّتِي يَنْزِلُهَا السُّفَرُ الَّتِي تَكُنْ مِنْ مَطَرٍ وَبَرْدٍ وَحَرٍّ وَإِنْ لَمْ يُقِرُّوا بِهَذَا فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُبَيِّنَ إذَا صَالَحَهُمْ كَيْفَ يُضَيِّفُ الْمُوسِرَ الَّذِي بَلَغَ يُسْرُهُ كَذَا وَيَصِفُ مَا يُضَيِّفُ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ وَعَدَدِ مَنْ يُضَيِّفُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى الْوَسَطِ الَّذِي يَبْلُغُ مَالُهُ عَدَدَ كَذَا مِنْ الْأَصْنَافِ وَعَلَى مَنْ عِنْدَهُ فَضْلٌ عَنْ نَفْعِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ عَدَدَ كَذَا وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ وَمَنَازِلُهُمْ وَمَا يُقْرِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ مَعْلُومًا إذَا نَزَلَ بِهِمْ الْجُمُوعُ وَمَرَّتْ الْجُيُوشُ فَيُؤْخَذُونَ بِهِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ كُلُّهُ مُدَوَّنًا مَشْهُودًا عَلَيْهِ بِهِ لِيَأْخُذَهُ مَنْ وَلِيَهُمْ مِنْ وُلاَتِهِ بَعْدَهُ وَيَكْتُبُ فِي كِتَابِهِمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُعْسِرًا فَرَجَعَ إلَى مَالِهِ حَتَّى يَكُونَ مُوسِرًا نُقِلَ إلَى ضِيَافَةِ الْمَيَاسِيرِ‏.‏

الصُّلْحُ عَلَى الِاخْتِلاَفِ فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَلاَ أُحِبُّ أَنْ يَدَعَ الْوَالِي أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي صُلْحٍ إلَّا مَكْشُوفًا مَشْهُودًا عَلَيْهِ وَأُحِبُّ أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَمَّا صَالَحُوا عَلَيْهِ مِمَّا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ أَنْكَرَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ أَنْ تَكُونَ صَالَحَتْ عَلَى شَيْءٍ يُؤْخَذُ مِنْهَا سِوَى الْجِزْيَةِ لَمْ يُلْزِمْهَا مَا أَنْكَرَتْ وَعَرَضَ عَلَيْهَا إحْدَى خَصْلَتَيْنِ أَنْ لاَ تَأْتِيَ الْحِجَازَ بِحَالٍ أَوْ تَأْتِيَ الْحِجَازَ عَلَى أَنَّهَا مَتَى أَتَتْ الْحِجَازَ أَخَذَ مِنْهَا مَا صَالَحَهَا عَلَيْهِ عُمَرُ وَزِيَادَةً إنْ رَضِيَتْ بِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا لاَ تَأْتِي الْحِجَازَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْلاَهَا مِنْ الْحِجَازِ وَقُلْنَا تَأْتِيهِ عَلَى مَا أَخَذَ عُمَرُ أَنْ لَيْسَ فِي إجْلاَئِهَا مِنْ الْحِجَازِ أَمْرٌ يُبَيِّنُ أَنْ يَحْرُمَ أَنْ تَأْتِيَ الْحِجَازَ مُنْتَابَةً وَإِنْ رَضِيَتْ بِإِتْيَانِ الْحِجَازِ عَلَى شَيْءٍ مِثْلِ مَا أَخَذَ عُمَرُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ أَذِنَ لَهَا أَنْ تَأْتِيَهُ مُنْتَابَةً لاَ تُقِيمُ بِبَلَدٍ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ فَإِنْ لَمْ تَرْضَ مَنَعَهَا مِنْهُ وَإِنْ دَخَلَتْهُ بِلاَ إذْنٍ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْ مَالِهَا شَيْءٌ وَأَخْرَجَهَا مِنْهُ وَعَاقَبَهَا إنْ عَلِمَتْ مَنْعَهُ إيَّاهَا وَلَمْ يُعَاقِبْهَا إنْ لَمْ تَعْلَمْ مَنْعَهُ إيَّاهَا وَتَقَدَّمَ إلَيْهَا فَإِنْ عَادَتْ عَاقَبَهَا وَيَقْدَمُ إلَى وُلاَتِهِ أَنْ لاَ يُجِيزُوا بِلاَدَ الْحِجَازِ إلَّا بِالرِّضَا وَالْإِقْرَارِ بِأَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ مَا أَخَذَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله تعالى عنه وَإِنْ زَادُوهُ عَلَيْهَا شَيْئًا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ فَكَانَ أَحَبَّ إلَيَّ وَإِنْ عَرَضُوا عَلَيْهِ أَقَلَّ مِنْهُ لَمْ أُحِبَّ أَنْ يَقْبَلَهُ‏.‏

وَإِنْ قَبِلَهُ لِخَلَّةٍ بِالْمُسْلِمِينَ رَجَوْت أَنْ يَسَعَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَحْرُمْ أَنْ يَأْتُوا الْحِجَازَ مُجْتَازِينَ لَمْ يَحِلَّ إتْيَانُهُمْ الْحِجَازَ كَثِيرٌ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَيُحَرِّمُهُ قَلِيلٌ وَإِذَا قَالُوا نَأْتِيهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِلْوَالِي وَلاَ لَهُمْ وَيَجْتَهِدُ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ بَلَدٍ انْتَابُوهُ فَإِنْ مُنِعُوا مِنْهُ فِي الْبُلْدَانِ فَلاَ يَبِينُ لِي أَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ بَلَدًا غَيْرَ الْحِجَازِ وَلاَ يَأْخُذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَإِنْ اتَّجَرُوا فِي بَلَدٍ غَيْرِ الْحِجَازِ شَيْئًا وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ فِي مَكَّةَ بِحَالٍ وَإِنْ أَتَوْهَا عَلَى الْحِجَازِ أَخَذَ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَإِنْ جَاءُوهَا عَلَى غَيْرِ شَرْطٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ شَيْئًا وَعَاقَبَهُمْ إنْ عَلِمُوا نَهْيَهُ عَنْ إتْيَانِ مَكَّةَ وَلَمْ يُعَاقِبْهُمْ إنْ لَمْ يَعْلَمُوا‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْتَدِئَ صُلْحَهُمْ عَلَى الْبَيَانِ مِنْ جَمِيعِ مَا وَصَفْت ثُمَّ يُلْزِمَهُمْ مَا صَالَحُوا عَلَيْهِ فَإِنْ أَغْفَلَهُمْ مَنَعَهُمْ الْحِجَازَ كُلَّهُ فَإِنْ دَخَلُوهُ بِغَيْرِ صُلْحٍ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمْ شَيْئًا وَلاَ يَبِينُ لِي أَنْ يَمْنَعَهُمْ غَيْرَ الْحِجَازِ مِنْ الْبُلْدَانِ قَالَ وَلاَ أَحْسَبُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَلاَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إلَّا عَنْ رِضًا مِنْهُمْ بِمَا أَخَذَ مِنْهُمْ فَأَخَذَهُ مِنْهُمْ كَمَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَلْزَمَهُمُوهُ بِغَيْرِ رِضًا مِنْهُمْ فَلاَ أَحْسَبُهُ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْحَرْبِ يَمْنَعُونَ الْإِتْيَانَ إلَى بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ بِتِجَارَةٍ بِكُلِّ حَالٍ إلَّا بِصُلْحٍ فَمَا صَالَحُوا عَلَيْهِ جَازَ لِمَنْ أَخَذَهُ وَإِنْ دَخَلُوا بِأَمَانٍ وَغَيْرِ صُلْحٍ مُقِرِّينَ بِهِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَرُدُّوا إلَى مَأْمَنِهِمْ إلَّا أَنْ يَقُولُوا إنَّمَا دَخَلْنَا عَلَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنَّا، فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَإِنْ دَخَلُوا بِغَيْرِ أَمَانٍ غَنِمُوا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَعْوَى أَمَانٍ وَلاَ رِسَالَةٍ كَانُوا فَيْئًا وَقُتِلَ رِجَالُهُمْ إلَّا أَنْ يُسْلِمُوا أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ قَبْلَ أَنْ نَظْفَرَ بِهِمْ إنْ كَانُوا مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ وَإِنْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَلَدًا أَوْ دَخَلَهَا حَرْبِيٌّ بِأَمَانٍ فَأَدَّى عَنْ مَالِهِ شَيْئًا ثُمَّ دَخَلَ بَعْدُ لَمْ يُؤْخَذْ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا بِأَنْ يُصَالِحَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ يَرْضَى بِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ فَأَمَّا الرُّسُلُ وَمَنْ ارْتَادَ الْإِسْلاَمَ فَلاَ يُمْنَعُونَ الْحِجَازَ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ» وَإِنْ أَرَادَ أَحَدٌ مِنْ الرُّسُلِ الْإِمَامَ وَهُوَ بِالْحَرَمِ فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ وَلاَ يُدْخِلْهُ الْحَرَمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ يُغْنِي الْإِمَامَ فِيهِ الرِّسَالَةُ وَالْجَوَابُ فَيَكْتَفِيَ بِهِمَا، فَلاَ يُتْرَكُ يَدْخُلُ الْحَرَمَ بِحَالٍ‏.‏

ذِكْرُ مَا أَخَذَ عُمَرُ رضي الله تعالى عنه مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله تعالى عنه كَانَ يَأْخُذُ مِنْ النَّبَطِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ نِصْفَ الْعُشْرِ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُكْثِرَ الْحِمْلَ إلَى الْمَدِينَةِ وَيَأْخُذُ مِنْ الْقُطْنِيَّةِ الْعُشْرَ‏.‏

أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ كُنْت عَامِلاً مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَكَانَ يَأْخُذُ مِنْ النَّبَطِ الْعُشْرَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ لَعَلَّ السَّائِبَ حَكَى أَمْرَ عُمَرَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ النَّبَطِ الْعُشْرَ فِي الْقُطْنِيَّةِ كَمَا حَكَى سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ فَلاَ يَكُونَانِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ يَكُونُ السَّائِبُ حَكَى الْعُشْرَ فِي وَقْتٍ فَيَكُونُ أَخَذَ مِنْهُمْ مَرَّةً فِي الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ عُشْرًا وَمَرَّةً نِصْفَ الْعُشْرِ وَلَعَلَّهُ كُلَّهُ بِصُلْحٍ يُحْدِثُهُ فِي وَقْتٍ بِرِضَاهُ وَرِضَاهُمْ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ لَسْت أَحْسَبُ عُمَرَ أَخَذَ مَا أَخَذَ مِنْ النَّبَطِ إلَّا عَنْ شَرْطٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كَشَرْطِ الْجِزْيَةِ وَكَذَلِكَ أَحْسَبُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَمَرَ بِالْأَخْذِ مِنْهُمْ وَلاَ يَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ شَيْئًا إلَّا عَنْ صُلْحٍ وَلاَ يُتْرَكُونَ يَدْخُلُونَ الْحِجَازَ إلَّا بِصُلْحٍ وَيُحَدِّدُ الْإِمَامُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي تِجَارَاتِهِمْ وَجَمِيعِ مَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَمْرًا يُبَيِّنُ لَهُمْ وَلِلْعَامَّةِ لِيَأْخُذَهُمْ بِهِ الْوُلاَةُ غَيْرُهُ، وَلاَ يُتْرَكُ أَهْلُ الْحَرْبِ يَدْخُلُونَ بِلاَدَ الْمُسْلِمِينَ تُجَّارًا فَإِنْ دَخَلُوا بِغَيْرِ أَمَانٍ وَلاَ رِسَالَةٍ غَنِمُوا وَإِنْ دَخَلُوا بِأَمَانٍ وَشَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ عُشْرًا أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ أَخَذَ مِنْهُمْ فَإِنْ دَخَلُوا بِلاَ أَمَانٍ وَلاَ شَرْطٍ رُدُّوا إلَى مَأْمَنِهِمْ وَلَمْ يُتْرَكُوا يَمْضُونَ فِي بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ شَيْءٌ وَقَدْ عَقَدَ لَهُمْ الْأَمَانَ إلَّا عَنْ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ وَإِنْ عَقَدَ لَهُمْ الْأَمَانَ عَلَى دِمَائِهِمْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْءٌ إنْ دَخَلُوا بِأَمْوَالٍ إلَّا بِشَرْطٍ عَلَى أَمْوَالِهِمْ أَوْ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَسَوَاءٌ كَانَ أَهْلُ الْحَرْبِ بَيْنَ قَوْمٍ يَعْشُرُونَ الْمُسْلِمِينَ إنْ دَخَلُوا بِلاَدَهُمْ أَوْ يَخْمِسُونَهُمْ لاَ يَعْرِضُونَ لَهُمْ فِي أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إلَّا عَنْ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ أَوْ صُلْحٍ يَتَقَدَّمُ مِنْهُمْ أَوْ يُؤْخَذُ غَنِيمَةً أَوْ فَيْئًا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَا يَأْمَنُونَ بِهِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَذِنَ بِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ غَنِيمَةً وَفَيْئًا وَكَذَلِكَ الْجِزْيَةُ فِيمَا أَعْطَوْهَا أَيْضًا طَائِعِينَ وَحَرَّمَ أَمْوَالَهُمْ بِعَقْدِ الْأَمَانِ لَهُمْ وَلاَ يُؤْخَذُ إذَا أَمِنُوا إلَّا بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ بِالشَّرْطِ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ بِهِ وَغَيْرِهِ فَيَحِلُّ بِهِ أَمْوَالُهُمْ‏.‏

تَحْدِيدُ الْإِمَامِ مَا يَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْأَمْصَارِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُحَدِّدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَمِيعَ مَا يُعْطِيهِمْ وَيَأْخُذَ مِنْهُمْ وَيَرَى أَنَّهُ يَنُوبُهُ وَيَنُوبُ النَّاسِ مِنْهُمْ فَيُسَمِّي الْجِزْيَةَ وَأَنْ يُؤَدِّيَهَا عَلَى مَا وَصَفْت وَيُسَمِّيَ شَهْرًا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِيهِ وَعَلَى أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمَ الْإِسْلاَمِ إذَا طَلَبَهُمْ بِهِ طَالِبٌ أَوْ أَظْهَرُوا ظُلْمًا لِأَحَدٍ وَعَلَى أَنْ لاَ يَذْكُرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَلاَ يَطْعَنُوا فِي دِينِ الْإِسْلاَمِ وَلاَ يَعِيبُوا مِنْ حُكْمِهِ شَيْئًا فَإِنْ فَعَلُوا فَلاَ ذِمَّةَ لَهُمْ وَيَأْخُذُوا عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يُسْمِعُوا الْمُسْلِمِينَ شِرْكَهُمْ وَقَوْلَهُمْ فِي عُزَيْرٍ وَعِيسَى عليهما السلام وَإِنْ وَجَدُوهُمْ فَعَلُوا بَعْدَ التَّقَدُّمِ فِي عُزَيْرٍ وَعِيسَى عليهما السلام إلَيْهِمْ عَاقَبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً لاَ يَبْلُغُ بِهَا حَدًّا لِأَنَّهُمْ قَدْ أَذِنَ بِإِقْرَارِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ مَعَ عِلْمِ مَا يَقُولُونَ وَلاَ يَشْتُمُوا الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى أَنْ لاَ يَغُشُّوا مُسْلِمًا وَعَلَى أَنْ لاَ يَكُونُوا عَيْنًا لِعَدُوِّهِمْ وَلاَ يَضُرُّوا بِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي حَالِ وَعَلَى أَنْ نُقِرَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَنْ لاَ يُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى دِينِهِمْ إذَا لَمْ يَرُدَّهُ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَلاَ رَقِيقِهِمْ وَلاَ غَيْرِهِمْ وَعَلَى أَنْ لاَ يُحْدِثُوا فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ كَنِيسَةً وَلاَ مُجْتَمَعًا لِضَلاَلاَتِهِمْ وَلاَ صَوْتَ نَاقُوسٍ وَلاَ حَمْلَ خَمْرٍ وَلاَ إدْخَالَ خِنْزِيرٍ وَلاَ يُعَذِّبُوا بَهِيمَةً وَلاَ يَقْتُلُوهَا بِغَيْرِ الذَّبْحِ وَلاَ يُحْدِثُوا بِنَاءً يُطِيلُونَهُ عَلَى بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ هَيْئَاتِهِمْ فِي اللِّبَاسِ وَالْمَرْكَبِ وَبَيْنَ هَيْئَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَعْقِدُوا الزَّنَانِيرَ فِي أَوْسَاطِهِمْ فَإِنَّهَا مِنْ أَبْيَنِ فَرْقٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ هَيْئَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ يَدْخُلُوا مَسْجِدًا وَلاَ يُبَايِعُوا مُسْلِمًا بَيْعًا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ فِي الْإِسْلاَمِ وَأَنْ لاَ يُزَوِّجُوا مُسْلِمًا مَحْجُورًا إلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ وَلاَ يَمْنَعُوا مَنْ أَنْ يُزَوِّجُوهُ حُرَّةً إذَا كَانَ حُرًّا مَا كَانَ بِنَفْسِهِ أَوْ مَحْجُورًا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ بِشُهُودِ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ يَسْقُوا مُسْلِمًا خَمْرًا وَلاَ يُطْعِمُوهُ مُحَرَّمًا مِنْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَلاَ غَيْرِهِ وَلاَ يُقَاتِلُوا مُسْلِمًا وَلاَ غَيْرَهُ وَلاَ يُظْهِرُوا الصَّلِيبَ وَلاَ الْجَمَاعَةَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا فِي قَرْيَةٍ يَمْلِكُونَهَا مُنْفَرِدِينَ لَمْ يَمْنَعْهُمْ إحْدَاثَ كَنِيسَةٍ وَلاَ رَفْعَ بِنَاءٍ وَلاَ يَعْرِضُ لَهُمْ فِي خَنَازِيرِهِمْ وَخَمْرِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ وَجَمَاعَاتِهِمْ وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يَسْقُوا مُسْلِمًا أَتَاهُمْ خَمْرًا وَلاَ يُبَايِعُوهُ مُحَرَّمًا وَلاَ يُطْعِمُوهُ وَلاَ يَغُشُّوا مُسْلِمًا وَمَا وَصَفْت سِوَى مَا أُبِيحَ لَهُمْ إذَا مَا انْفَرَدُوا قَالَ وَإِذَا كَانُوا بِمِصْرٍ لِلْمُسْلِمِينَ لَهُمْ فِيهِ كَنِيسَةٌ أَوْ بِنَاءٌ طَائِلٌ كَبِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ هَدْمُهَا وَلاَ هَدْمُ بِنَائِهِمْ وَتَرَكَ كُلًّا عَلَى مَا وَجَدَهُ عَلَيْهِ وَمَنَعَ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنِيسَةِ وَقَدْ قِيلَ يَمْنَعُ مِنْ الْبِنَاءِ الَّذِي يُطَاوِلُ بِهِ بِنَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قِيلَ إذَا مَلَكَ دَارًا لَمْ يُمْنَعْ مِمَّا لاَ يُمْنَعُ الْمُسْلِمُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَجْعَلُوا بِنَاءَهُمْ دُونَ بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِشَيْءٍ وَكَذَلِكَ إنْ أَظْهَرُوا الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْجَمَاعَاتِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْمِصْرُ لِلْمُسْلِمِينَ أَحَبُّوهُ أَوْ فَتَحُوهُ عَنْوَةً وَشَرَطُوا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ هَذَا فَإِنْ كَانُوا فَتَحُوهُ عَلَى صُلْحٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ تَرْكِ إظْهَارِ الْخَنَازِيرِ وَالْخَمْرِ وَإِحْدَاثِ الْكَنَائِسِ فِيمَا مَلَكُوا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَإِظْهَارُ الشِّرْكِ أَكْثَرُ مِنْهُ وَلاَ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَالِحَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَنْ يُنْزِلَهُ مِنْ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ مَنْزِلاً يُظْهِرُ فِيهِ جَمَاعَةً وَلاَ كَنِيسَةً وَلاَ نَاقُوسًا إنَّمَا يُصَالِحُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فِي بِلاَدِهِمْ الَّتِي وُجِدُوا فِيهَا فَنَفْتَحُهَا عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا فَأَمَّا بِلاَدٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فَلاَ يَجُوزُ هَذَا لَهُ فِيهَا فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ فِي بِلاَدٍ بِمِلْكِهِ مَنَعَهُ الْإِمَامُ مِنْهُ فِيهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَدَعَهُمْ أَنْ يَنْزِلُوا بَلَدًا لاَ يُظْهِرُونَ هَذَا فِيهِ وَيُصَلُّونَ فِي مَنَازِلِهِمْ بِلاَ جَمَاعَاتٍ تَرْتَفِعُ أَصْوَاتُهُمْ وَلاَ نَوَاقِيسَ وَلاَ نَكُفَّهُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظَاهِرًا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَسَادٌ لِمُسْلِمٍ وَلاَ مَظْلَمَةٌ لِأَحَدٍ فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا نَهَاهُ عَنْهُ مِثْلَ الْغِشِّ لِمُسْلِمٍ أَوْ بَيْعِهِ حَرَامًا أَوْ سَقْيِهِ مُحَرَّمًا أَوْ الضَّرْبِ لِأَحَدٍ أَوْ الْفَسَادِ عَلَيْهِ عَاقَبَهُ فِي ذَلِكَ بِقَدْرِ ذَنْبِهِ وَلاَ يَبْلُغُ بِهِ حَدًّا وَإِنْ أَظْهَرُوا نَاقُوسًا أَوْ اجْتَمَعَتْ لَهُمْ جَمَاعَاتٌ أَوْ تَهَيَّئُوا بِهَيْئَةٍ نَهَاهُمْ عَنْهَا تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَإِنْ عَادُوا عَاقَبَهُمْ وَإِنْ فَعَلَ هَذَا مِنْهُمْ فَاعِلٌ أَوْ بَاعَ مُسْلِمًا بَيْعًا حَرَامًا فَقَالَ مَا عَلِمْت تَقَدَّمَ إلَيْهِ الْوَالِي وَأَحْلَفَهُ وَأَقَالَهُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ عَادَ عَاقَبَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْهُمْ مَظْلِمَةً لِأَحَدٍ فِيهَا حَدٌّ مِثْلَ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْفِرْيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أُقِيمَ عَلَيْهِ وَإِنْ غَشَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَكْتُبَ إلَى الْعَدُوِّ لَهُمْ بِعَوْرَةٍ أَوْ يُحَدِّثَهُمْ شَيْئًا أَرَادُوهُ بِهِمْ وَمَا أَشْبَهَ هَذَا عُوقِبَ وَحُبِسَ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا وَلاَ قَطْعَ الطَّرِيقِ نَقْضًا لِلْعَهْدِ مَا أَدَّوْا الْجِزْيَةَ عَلَى أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِمْ الْحُكْمَ‏.‏

مَا يُعْطِيهِمْ الْإِمَامُ مِنْ الْمَنْعِ مِنْ الْعَدُوِّ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّهُمْ إنْ كَانُوا فِي بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ أَوْ بَيْنَ أَظْهُرِ أَهْلِ الْإِسْلاَمِ مُنْفَرِدِينَ أَوْ مُجْتَمَعِينَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ أَنْ يَسْبِيَهُمْ الْعَدُوُّ أَوْ يَقْتُلَهُمْ مَنَعَهُ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ‏.‏

وَإِنْ كَانَتْ دَارُهُمْ وَسَطَ دَارِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ فَلَمْ يَكُنْ فِي صُلْحِهِمْ أَنْ يَمْنَعَهُمْ فَعَلَيْهِ مَنْعُهُمْ لِأَنَّ مَنْعُهُمْ مَنَعَ دَارَ الْإِسْلاَمِ دُونَهُمْ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لاَ يُوصَلُ إلَى مَوْضِعٍ هُمْ فِيهِ مُنْفَرِدُونَ إلَّا بِأَنْ تُوطَأَ مِنْ بِلاَدِهِمْ شَيْءٌ كَانَ عَلَيْهِ مَنْعُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ لَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ بِلاَدُهُمْ دَاخِلَةً بِبِلاَدِ الشِّرْكِ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ شِرْكُ حَرْبٍ فَإِذَا أَتَاهَا الْعَدُوُّ لَمْ يَطَأْ مِنْ بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ شَيْئًا وَمَعَهُمْ مُسْلِمٌ فَأَكْثَرُ كَانَ عَلَيْهِ مَنْعُهُمْ‏.‏

وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ لَهُمْ لِأَنَّ مَنْعَ دَارِهِمْ مِنْهُ مُسَلَّمٌ وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مُسْلِمٌ وَكَانَ مَعَهُمْ مَالٌ لِمُسْلِمٍ فَإِنْ كَانَتْ دَارُهُمْ كَمَا وَصَفْت مُتَّصِلَةً بِبِلاَدِ الْإِسْلاَمِ وَبِلاَدِ الشِّرْكِ إذَا غَشِيَهَا الْمُشْرِكُونَ لَمْ يَنَالُوا مِنْ بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ شَيْئًا وَأَخَذَ الْإِمَامُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهُمْ مَنْعَهُمْ فَعَلَيْهِ مَنْعُهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ فِي أَصْلِ صُلْحِهِمْ أَنَّهُ لاَ يَمْنَعُهُمْ فَيَرْضَوْنَ بِذَلِكَ وَأُكْرِهَ لَهُ إذَا اتَّصَلُوا كَمَا وَصَفْت بِبِلاَدِ الْإِسْلاَمِ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ لاَ يَمْنَعَهُمْ وَأَنْ يَدَعَ مَنْعَهُمْ وَلاَ يُبَيِّنُ أَنَّ عَلَيْهِ مَنْعَهُمْ‏.‏

فَإِنْ كَانَ أَصْلُ صُلْحِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لاَ تَمْنَعْنَا وَنَحْنُ نُصَالِحُ الْمُشْرِكِينَ بِمَا شِئْنَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا وَأَحَبُّ إلَيَّ لَوْ صَالَحَهُمْ عَلَى مَنْعِهِمْ لِئَلَّا يَنَالُوا أَحَدًا يَتَّصِلُ بِبِلاَدِ الْإِسْلاَمِ فَإِنْ كَانُوا قَوْمًا مِنْ الْعَدُوِّ دُونَهُمْ عَدُوٌّ فَسَأَلُوا أَنْ يُصَالِحُوا عَلَى جِزْيَةٍ وَلاَ يَمْنَعُوا جَازَ لِلْوَالِي أَخْذُهَا مِنْهُمْ وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا بِحَالٍ مِنْ هَؤُلاَءِ وَلاَ غَيْرِهِمْ إلَّا عَلَى أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمَ الْإِسْلاَمِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَأْذَنْ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ إلَّا بِأَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَالصَّغَارُ أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمَ الْإِسْلاَمِ فَمَتَى صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ لاَ يُجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمَ الْإِسْلاَمِ فَالصُّلْحُ فَاسِدٌ وَلَهُ أَخْذُ مَا صَالَحُوهُ عَلَيْهِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَفَّ فِيهَا عَنْهُمْ وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ حَتَّى تَصَالَحُوا عَلَى أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِمْ الْحُكْمَ أَوْ يُقَاتِلَهُمْ وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى هَذَا إلَّا أَنْ تَكُونَ بِهِمْ قُوَّةٌ‏.‏

وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ آخُذُ مِنْكُمْ الْجِزْيَةَ إذَا اسْتَغْنَيْتُمْ وَأَدَعُهَا إذَا افْتَقَرْتُمْ وَلاَ أَنْ يُصَالِحَهُمْ إلَّا عَلَى جِزْيَةٍ مَعْلُومَةٍ لاَ يُزَادُ فِيهَا وَلاَ يُنْقَصُ وَلاَ أَنْ يَقُولَ مَتَى اُفْتُقِرَ مِنْكُمْ مُفْتَقِرٌ أَنْفَقْت عَلَيْهِ مِنْ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ وَمَتَى صَالَحَهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا زَعَمْت أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ جِزْيَةً أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ فِي السَّنَةِ رَدَّ الْفَضْلَ عَلَى الدِّينَارِ وَدَعَاهُمْ إلَى أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَلَى مَا يَصْلُحُ‏.‏

فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا نَبَذَ إلَيْهِمْ وَقَاتَلَهُمْ وَمَتَى أَخَذَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ فَلَمْ يَمْنَعْهُمْ إمَّا بِغَلَبَةِ عَدُوٍّ لَهُ حَتَّى هَرَبَ عَنْ بِلاَدِهِمْ وَأَسْلَمَهُمْ وَإِمَّا تَحَصَّنَ مِنْهُ حَتَّى نَالَهُمْ الْعَدُوُّ فَإِنْ كَانَ تَسَلَّفَ مِنْهُمْ جِزْيَةَ سَنَةٍ أَصَابَهُمْ فِيهَا مَا وَصَفْت رَدَّ عَلَيْهِمْ جِزْيَةَ مَا بَقِيَ مِنْ السَّنَةِ وَنَظَرَ فَإِنْ كَانَ مَا مَضَى مِنْ السَّنَةِ نِصْفَهَا أَخَذَ مِنْهُ مَا صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ لِأَنَّ الصُّلْحَ كَانَ تَامًّا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حَتَّى أَسْلَمَهُمْ فَيَوْمَئِذٍ انْتَقَضَ صُلْحُهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَسَلَّفْ مِنْهُمْ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَخَذَ مِنْهُمْ جِزْيَةَ سَنَةٍ قَدْ مَضَتْ وَأَسْلَمَهُمْ فِي غَيْرِهَا لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا وَلاَ يَسَعُهُ إسْلاَمُهُمْ فَإِنْ غَلَبَ غَلَبَةً فَعَلَى مَا وَصَفْت وَإِنْ أَسْلَمَهُمْ غَلَبَةً فَهُوَ آثِمٌ فِي إسْلاَمِهِمْ وَعَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ آذَاهُمْ وَإِذَا أَخَذَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ أَخَذَهَا بِإِجْمَالٍ وَلَمْ يَضْرِبْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ قَبِيحٌ وَالصَّغَارُ أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِمْ الْحُكْمَ لاَ أَنْ يُضْرَبُوا وَلاَ يُؤْذُوا وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يَحْيَوْا مِنْ بِلاَدِ الْإِسْلاَمِ شَيْئًا وَلاَ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِيهِ بِحَالٍ وَإِنْ أَقْطَعَهُ رَجُلاً مُسْلِمًا فَغَمَرَهُ ثُمَّ بَاعَهُمُوهُ لَمْ يُنْقَضْ الْبَيْعُ وَتَرَكَهُمْ حَيَاءَهُ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُ بِأَمْوَالِهِمْ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ الصَّيْدَ فِي بَرٍّ وَلاَ بَحْرٍ لِأَنَّ الصَّيْدَ لَيْسَ بِإِحْيَاءِ أَمْوَاتٍ وَكَذَلِكَ لاَ يَمْنَعُهُمْ الْحَطْبَ وَلاَ الرَّعْيَ فِي بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ لاَ يُمْلَكُ‏.‏

تَفْرِيعُ مَا يُمْنَعُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ

أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ‏:‏ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ إذَا كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَ أَهْلَ الذِّمَّةِ إذَا كَانُوا مَعَنَا فِي الدَّارِ وَأَمْوَالُهُمْ الَّتِي يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يتمولوها مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَمْوَالَنَا مِنْ عَدُوِّهِمْ إنْ أَرَادَهُمْ أَوْ ظُلْمِ ظَالِمٍ لَهُمْ وَأَنْ نَسْتَنْقِذَهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ لَوْ أَصَابَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ الَّتِي تَحِلُّ لَهُمْ لَوْ قَدَرْنَا، فَإِذَا قَدَرْنَا اسْتَنْقَذْنَاهُمْ وَمَا حَلَّ لَهُمْ مِلْكُهُ وَلَمْ نَأْخُذْ لَهُمْ خَمْرًا وَلاَ خِنْزِيرًا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ تَسْتَنْقِذُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ الَّتِي يَحِلُّ لَهُمْ مِلْكُهَا وَلاَ تَسْتَنْقِذُ لَهُمْ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ وَأَنْتَ تُقِرُّهُمْ عَلَى مِلْكِهَا‏؟‏ قُلْت إنَّمَا مَنَعْتهمْ بِتَحْرِيمِ دِمَائِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ فِي دِمَائِهِمْ دِيَةً وَكَفَّارَةً، وَأَمَّا مَنْعِي مَا يَحِلُّ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَبِذِمَّتِهِمْ وَأَمَّا مَا أَقْرَرْتُهُمْ عَلَيْهِ فَمُبَاحٌ لِي بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَذِنَ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فَكَانَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ دِمَائِهِمْ بَعْدَ مَا أَعْطَوْهَا وَهُمْ صَاغِرُونَ وَلَمْ يَكُنْ فِي إقْرَارِي لَهُمْ عَلَيْهَا مَعُونَةٌ عَلَيْهَا، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ عَلَيْهِمْ عَبْدٌ أَوْ وَلَدٌ مِنْ الشِّرْكِ فَأَرَادُوا إكْرَاهَهُمْ لَمْ أَقِرَّهُمْ عَلَى إكْرَاهِهِ بَلْ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُ وَكَمَا لَمْ أَكُنْ بِإِقْرَارِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ مُعِينًا لَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ وَلاَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْعَدُوِّ مُعِينًا عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إقْرَارُهُمْ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ عَوْنًا لَهُمْ عَلَيْهِ وَلاَ أَكُونُ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى أَخْذِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَإِنْ أَقْرَرْتُهُمْ عَلَى مِلْكِهِ فَإِنْ قَالَ فَلِمَ لَمْ تَحْكُمْ لَهُمْ بِقِيمَتِهِ عَلَى مَنْ اسْتَهْلَكَهُ قُلْت أَمَرَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلاَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ الْمُبَيَّنُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلاَ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُحَرَّمِ ثَمَنٌ، فَمَنْ حَكَمَ لَهُمْ بِثَمَنٍ مُحَرَّمٍ حَكَمَ بِخِلاَفِ حُكْمِ الْإِسْلاَمِ وَلَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ بِخِلاَفِ حُكْمِ الْإِسْلاَمِ وَأَنَا مَسْئُولٌ عَمَّا حَكَمْت بِهِ وَلَسْت مَسْئُولاً عَمَّا عَمِلُوا مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِمَّا لَمْ أُكَلِّفْ مَنْعَهُ مِنْهُمْ، وَمَنْ سَرَقَ لَهُمْ مِنْ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلُ الذِّمَّةِ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ قَطَعْته وَإِذَا سَرَقُوا فَجَاءَنِي الْمَسْرُوقُ قَطَعْتهمْ وَكَذَلِكَ أَحَدُهُمْ إنْ قَذَفُوا وُحْدَانًا لَهُمْ مَنْ قَذَفَهُمْ وَأُؤَدِّبُ لَهُمْ مَنْ ظَلَمَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَآخُذُ لَهُمْ مِنْهُ جَمِيعَ مَا يَجِبُ لَهُمْ مِمَّا يَحِلُّ أَخْذُهُ وَأَنْهَاهُ عَنْ الْعَرْضِ لَهُ وَإِذَا عَرَضَ لَهُمْ بِمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ أَوْ بَدَنِهِ شَيْئًا أَخَذْته مِنْهُ إذَا عَرَضَ لَهُمْ بِأَذًى لاَ يُوجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ زَجَرْته عَنْهُ فَإِنْ عَادَ حَبَسْته أَوْ عَاقَبْته عَلَيْهِ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُهْرِيقَ خَمْرَهُمْ أَوْ يَقْتُلَ خَنَازِيرَهُمْ وَمَا أَشْبَهُ هَذَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَكَيْفَ لاَ تُجِيزُ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَفِي ذَلِكَ إبْطَالُ الْحُكْمِ عَنْهُمْ‏؟‏ قِيلَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ‏}‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ‏}‏ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ رِجَالِنَا وَلاَ مِمَّنْ نَرْضَى مِنْ الشُّهَدَاءِ فَلَمَّا وَصَفَ الشُّهُودَ مِنَّا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُقْضَى بِشَهَادَةِ شُهُودٍ مِنْ غَيْرِنَا لَمْ يَجُزْ أَنْ نَقْبَلَ شَهَادَةَ غَيْرِ مُسْلِمٍ وَأَمَّا إبْطَالُ حُقُوقِهِمْ فَلَمْ نُبْطِلْهَا إلَّا إذَا لَمْ يَأْتِنَا مَا يَجُوزُ فِيهِ وَكَذَلِكَ يَصْنَعُ بِأَهْلِ الْبَادِيَةِ وَالشَّجَرِ وَالْبَحْرِ وَالصِّنَاعَاتِ لاَ يَكُونُ مِنْهُمْ مَنْ يُعْرَفُ عَدْلُهُ وَهُمْ مُسْلِمُونَ فَلاَ يَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَقَدْ تَجْرِي بَيْنَهُمْ الْمَظَالِمُ وَالتَّدَاعِي وَالتِّبَاعَاتُ كَمَا تَجْرِي بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَسْنَا آثِمِينَ فِيمَا جَنَى جَانِيهِمْ وَمَنْ أَجَازَ شَهَادَةَ مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِإِجَازَةِ شَهَادَتِهِ أَثِمَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ عَمَلٌ نُهِيَ عَنْ عَمَلِهِ فَإِنْ قَالَ‏:‏ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدُكُمْ الْمَوْتُ‏}‏ قَرَأَ الرَّبِيعُ إلَى «فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ» فَمَا مَعْنَاهُ‏؟‏ قِيلَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُعَاذُ بْنُ مُوسَى الْجَعْفَرِيُّ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ قَالَ بُكَيْر قَالَ مُقَاتِلٌ أَخَذْت هَذَا التَّفْسِيرَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ‏}‏ الآيَةَ‏.‏ «أَنَّ رَجُلَيْنِ نَصْرَانِيَّيْنِ مِنْ أَهْلِ دَارَيْنِ أَحَدُهُمَا تَمِيمِيٌّ وَالْآخَرُ يَمَانِيٌّ صَحِبَهُمَا مَوْلًى لِقُرَيْشٍ فِي تِجَارَةٍ فَرَكِبُوا الْبَحْرَ وَمَعَ الْقُرَشِيِّ مَالٌ مَعْلُومٌ قَدْ عَلِمَهُ أَوْلِيَاؤُهُ مِنْ بَيْنِ آنِيَةٍ وَبَزِّ وَرِقَةٍ فَمَرِضَ الْقُرَشِيُّ فَجَعَلَ وَصِيَّتَهُ إلَى الدَّارِيَيْنِ فَمَاتَ وَقَبَضَ الدَّارِيَانِ الْمَالَ وَالْوَصِيَّةَ فَدَفَعَاهُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ وَجَاءَ بِبَعْضِ مَالِهِ وَأَنْكَرَ الْقَوْمُ قِلَّةَ الْمَالِ فَقَالُوا لِلدَّارِيَيْنِ إنَّ صَاحِبَنَا قَدْ خَرَجَ وَمَعَهُ مَالٌ أَكْثَرُ مِمَّا أَتَيْتُمَانَا بِهِ فَهَلْ بَاعَ شَيْئًا أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا فَوَضَعَ فِيهِ‏؟‏ أَوْ هَلْ طَالَ مَرَضُهُ فَأَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ‏؟‏ قَالاَ‏:‏ لاَ قَالُوا فَإِنَّكُمَا خُنْتُمَانَا فَقَبَضُوا الْمَالَ وَرَفَعُوا أَمْرَهُمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ‏}‏ إلَى آخِرِ الآيَةِ فَلَمَّا نَزَلَتْ أَنْ يُحْبَسَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَا بَعْدَ الصَّلاَةِ فَحَلَفَا بِاَللَّهِ رَبِّ السَّمَوَاتِ مَا تَرَكَ مَوْلاَكُمْ مِنْ الْمَالِ إلَّا مَا أَتَيْنَاكُمْ بِهِ وَأَنَّا لاَ نَشْتَرِي بِإِيمَانِنَا ثَمَنًا قَلِيلاً مِنْ الدُّنْيَا ‏{‏وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إنَّا إذًا لَمِنْ الْآثِمِينَ‏}‏ فَلَمَّا حَلَفَا خَلَّى سَبِيلَهُمَا ثُمَّ إنَّهُمْ وَجَدُوا بَعْدَ ذَلِكَ إنَاءً مِنْ آنِيَةِ الْمَيِّتِ فَأَخَذُوا الدَّارِيَيْنِ فَقَالاَ اشْتَرَيْنَاهُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ وَكَذَّبَا فَكُلِّفَا الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يَقْدِرَا عَلَيْهَا فَرَفَعُوا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ عُثِرَ‏}‏ يَقُولُ فَإِنْ اطَّلَعَ ‏{‏عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا‏}‏ يَعْنِي الدَّارِيَيْنِ أَيْ كَتَمَا حَقًّا ‏{‏فَآخَرَانِ‏}‏ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ ‏{‏يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ‏}‏ فَيَحْلِفَانِ بِاَللَّهِ إنَّ مَالَ صَاحِبِنَا كَانَ كَذَا وَكَذَا وَإِنَّ الَّذِي نَطْلُبُ قَبْلَ الدَّارِيَيْنِ لَحَقٌّ ‏{‏وَمَا اعْتَدَيْنَا إنَّا إذَا لَمِنْ الظَّالِمِينَ‏}‏ هَذَا قَوْلُ الشَّاهِدَيْنِ أَوْلِيَاءَ الْمَيِّتِ ‏{‏ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا‏}‏ يَعْنِي الدَّارِيَيْنِ وَالنَّاسَ أَنْ يَعُودُوا لِمِثْلِ ذَلِكَ»‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ يَعْنِي مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِ الدَّارِيَيْنِ مِنْ النَّاسِ وَلاَ أَعْلَمُ الْآيَةَ تَحْتَمِلُ مَعْنًى غَيْرَ حَمْلِهِ عَلَى مَا قَالَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُوَضَّحْ بَعْضُهُ لِأَنَّ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ كَشَاهِدَيْ الْوَصِيَّةِ كَانَا أَمِينَيْ الْمَيِّتِ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إذَا كَانَ شَاهِدَانِ مِنْكُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِكُمْ أَمِينِينَ عَلَى مَا شَهِدَا عَلَيْهِ فَطَلَبَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ أَيْمَانَهُمَا أُحْلِفَا بِأَنَّهُمَا أَمِينَانِ لاَ فِي الشُّهُودِ فَإِنْ قَالَ فَكَيْفَ تُسَمَّى فِي هَذَا الْوَضْعِ شَهَادَةً‏؟‏ قِيلَ كَمَا سُمِّيَتْ أَيْمَانُ الْمُتَلاَعِنَيْنِ شَهَادَةً وَإِنَّمَا مَعْنَى شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ أَيْمَانُ بَيْنِكُمْ إذَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَكَيْفَ لَمْ تَحْتَمِلْ الشَّهَادَةَ‏؟‏ قِيلَ وَلاَ نَعْلَمُ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَاهِدٍ يَمِينٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ أَوْ رُدَّتْ وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُهُمَا خِلاَفًا لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيُشْبِهُ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا‏}‏ يُوجَدُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ فِي أَيْدِيهِمَا وَلَمْ يَذْكُرَا قَبْلَ وُجُودِهِ أَنَّهُ فِي أَيْدِيهِمَا فَلَمَّا وُجِدَ ادَّعَيَا ابْتِيَاعَهُ فَأُحْلِفَ أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ عَلَى مَالِ الْمَيِّتِ فَصَارَ مَالاً مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ بِإِقْرَارِهِمَا وَادَّعَيَا لِأَنْفُسِهِمَا شِرَاءَهُ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُمَا بِلاَ بَيِّنَةٍ فَأُحْلِفَ وَارِثَاهُ عَلَى مَا ادَّعَيَا وَإِنْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ لَمْ يُبَيِّنْهُ فِي حَدِيثِهِ هَذَا التَّبْيِينَ فَقَدْ جَاءَ بِمَعْنَاهُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَلَيْسَ فِي هَذَا رَدُّ الْيَمِينِ إنَّمَا كَانَتْ يَمِينُ الدَّارِيَيْنِ عَلَى ادِّعَاءِ الْوَرَثَةِ مِنْ الْخِيَانَةِ وَيَمِينُ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ عَلَى مَا ادَّعَى الدَّارِيَانِ مِمَّا وُجِدَ فِي أَيْدِيهِمَا وَأَقَرَّا أَنَّهُ لِلْمَيِّتِ وَأَنَّهُ صَارَ لَهُمَا مِنْ قِبَلِهِ وَإِنَّمَا أَجَزْنَا رَدَّ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الآيَةِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدُّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ‏}‏ فَذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ الْأَيْمَانَ كَانَتْ عَلَيْهِمْ بِدَعْوَى الْوَرَثَةِ أَنَّهُمْ اخْتَانُوا ثُمَّ صَارَ الْوَرَثَةُ حَالِفِينَ بِإِقْرَارِهِمْ أَنَّ هَذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ وَادِّعَائِهِمْ شِرَاءَهُ مِنْهُ فَجَازَ أَنْ يُقَالَ أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ تُثْنَى عَلَيْهِمْ الْأَيْمَانُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ إنْ صَارَتْ لَهُمْ الْأَيْمَانُ كَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ حَلَفَ لَهُمْ وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ‏{‏يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا‏}‏ يَحْلِفَانِ كَمَا أَحَلَفَا وَإِذَا كَانَ هَذَا كَمَا وَصَفْت فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِنَاسِخَةٍ وَلاَ مَنْسُوخَةٍ لِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِإِشْهَادِ ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَمَنْ نَرْضَى مِنْ الشُّهَدَاءِ‏.‏

الْحُكْمُ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَادَعَ يَهُودَ كَافَّةً عَلَى غَيْرِ جِزْيَةٍ وَأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ إنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ الْمُوَادِعِينَ الَّذِينَ لَمْ يُعْطُوا جِزْيَةً وَلَمْ يُقِرُّوا بِأَنْ يَجْرِي عَلَيْهِمْ الْحُكْمُ وَقَالَ بَعْضٌ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا»‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَاَلَّذِي قَالُوا يُشْبِهُ مَا قَالُوا لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ‏}‏ وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ‏}‏ الآيَةَ‏.‏ يَعْنِيَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ إنْ تَوَلَّوْا عَنْ حُكْمِك بِغَيْرِ رِضَاهُمْ وَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ أَتَى حَاكِمًا غَيْرَ مَقْهُورٍ عَلَى الْحُكْمِ وَاَلَّذِينَ حَاكَمُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةٍ مِنْهُمْ وَرَجُلٍ زَنَيَا مُوَادِعُونَ وَكَانَ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمُ وَرَجَوْا أَنْ لاَ يَكُونَ مِنْ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجْمُ فَجَاءُوا بِهَا فَرَجَمَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ وَإِذَا وَادَعَ الْإِمَامُ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِمْ الْحُكْمَ ثُمَّ جَاءُوهُ مُتَحَاكِمِينَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَوْ يَدَعَ الْحُكْمَ، فَإِنْ اخْتَارَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ حَكَمَ بَيْنَهُمْ حُكْمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ حَكَمْت فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ‏}‏ وَالْقِسْطُ حُكْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ الْخِيَارُ فِي أَحَدٍ مِنْ الْمُعَاهَدِينَ الَّذِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ الْحُكْمُ إذَا جَاءُوهُ فِي حَدِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَهُ وَلاَ يُفَارِقُونَ الْمُوَادِعِينَ إلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، ثُمَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْمُوَادِعِينَ حُكْمَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا جَاءُوهُ فَإِنْ امْتَنَعُوا بَعْدَ رِضَاهُمْ بِحُكْمِهِ حَارَبَهُمْ، وَسَوَاءٌ فِي أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي الْمُوَادِعِينَ إذَا أَصَابُوا حَدًّا لِلَّهِ أَوْ حَدًّا فِيمَا بَيْنَهُمْ لِأَنَّ الْمُصَابَ مِنْهُ الْحَدُّ لَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يُقِرَّ بِأَنْ يُجْرَى عَلَيْهِ الْحُكْمُ‏.‏

الْحُكْمُ بَيْنَ أَهْلِ الْجِزْيَةِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ‏:‏ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَكَانَ الصَّغَارُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمَ الْإِسْلاَمِ وَأَذِنَ اللَّهُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ عَلَى أَنْ قَدْ عَلِمَ شِرْكَهُمْ بِهِ وَاسْتِحْلاَلَهُمْ لِمَحَارِمِهِ فَلاَ يَكْشِفُوا عَنْ شَيْءٍ مِمَّا اسْتَحَلُّوا بَيْنَهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ ضَرَرًا عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ أَوْ مُسْتَأْمَنِ غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يَطْلُبْهُ لَمْ يَكْشِفُوا عَنْهُ فَإِذَا أَبَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَا فِيهِ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَأَتَى طَالِبُ الْحَقِّ إلَى الْإِمَامِ يَطْلُبُ حَقَّهُ فَحَقٌّ لاَزِمٌ لِلْإِمَامِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ عَلَى مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَأْتِهِ الْمَطْلُوبُ رَاضِيًا بِحُكْمِهِ وَكَذَلِكَ إنْ أَظْهَرَ السَّخْطَةَ لِحُكْمِهِ لِمَا وَصَفْت مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَهُمْ صَاغِرُونَ‏}‏ وَلاَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ دَارُ الْإِسْلاَمِ دَارَ مُقَامٍ لِمَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ الْحُكْمِ فِي حَالٍ وَيُقَالُ نَزَلَتْ ‏{‏وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ‏}‏ فَكَانَ ظَاهِرُ مَا عَرَفْنَا أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَإِنْ جَاءَتْ امْرَأَةُ رَجُلٍ مِنْهُمْ تَسْتَعْدِي عَلَيْهِ بِأَنَّهُ طَلَّقَهَا أَوْ آلَى مِنْهَا حَكَمْت عَلَيْهِ حُكْمِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَلْزَمْته الطَّلاَقَ وَفَيْئِيَّةَ الْإِيلاَءِ فَإِنْ فَاءَ وَإِلَّا أَخَذْته بِأَنْ يُطَلِّقَ وَإِنْ قَالَتْ تَظَاهَرَ مِنِّي أَمَرْته أَنْ لاَ يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ وَلاَ يُجْزِئُهُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ إلَّا رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ وَكَذَلِكَ لاَ يُجْزِئُهُ فِي الْقَتْلِ إلَّا رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَكَيْفَ يُكَفِّرُ الْكَافِرُ قِيلَ كَمَا يُؤَدِّي الْوَاجِبَ وَإِنْ كَانَ لاَ يُؤْجَرُ عَلَى أَدَائِهِ مِنْ دِيَةٍ أَوْ أَرْشِ جُرْحٍ أَوْ غَيْرِهِ وَكَمَا يُحَدُّ وَإِنْ كَانَ لاَ يُكَفِّرُ عَنْهُ بِالْحَدِّ لَشِرْكِهِ فَإِنْ قَالَ فَيُكَفِّرُ عَنْهُ خَطِيئَةَ الْحَدِّ‏؟‏ قِيلَ فَإِنْ جَازَ أَنْ يُكَفِّرَ خَطِيئَةَ الْحَدِّ جَازَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ خَطِيئَةَ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ وَإِنْ قِيلَ يُؤَدِّي وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْوَاجِبُ وَإِنْ لَمْ يُؤْجَرْ وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنْهُ‏؟‏ قِيلَ وَكَذَلِكَ الظِّهَارُ وَالْأَيْمَانُ وَالرَّقَبَةُ فِي الْقَتْلِ فَإِنْ جَاءَنَا يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ لَمْ نُزَوِّجْهُ إلَّا كَمَا يُزَوَّجُ الْمُسْلِمُ بِرِضًا مِنْ الزَّوْجَةِ وَمَهْرٍ وَشُهُودِ عُدُولٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ جَاءَتْنَا امْرَأَةٌ قَدْ نَكَحَهَا تُرِيدُ فَسَادَ نِكَاحِهَا بِأَنَّهُ نَكَحَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ مُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِ وَلِيٍّ وَمَا يُرَدُّ بِهِ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ مِمَّا لاَ حَقَّ فِيهِ لِزَوْجٍ غَيْرِهِ لَمْ يُرَدَّ نِكَاحُهُ إذَا كَانَ اسْمُهُ عِنْدَهُمْ نِكَاحًا لِأَنَّ النِّكَاحَ مَاضٍ قَبْلَ حُكْمِنَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ أَيْنَ قُلْت هَذَا‏؟‏ قُلْت قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ «اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا» وَقَالَ «وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ» فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ لاَ يَأْخُذُوا مَا لَمْ يَقْبِضُوا مِنْهُ وَرَجَعُوا مِنْهُ إلَى رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِكَاحَ الْمُشْرِكِ بِمَا كَانَ قَبْلَ حُكْمِهِ وَإِسْلاَمِهِمْ وَكَانَ مُقْتَضِيًا وَرَدَّ مَا جَاوَزَ أَرْبَعًا مِنْ النِّسَاءِ لِأَنَّهُنَّ بِوَاقٍ فَتَجَاوَزَ عَمَّا مَضَى كُلِّهِ فِي حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحُكْمِ رَسُولِهِ وَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذِمَّةٌ وَأَهْلُ هُدْنَةٍ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَنْكِحُونَ نِكَاحَهُمْ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِأَنْ يَنْكِحُوا غَيْرَهُ وَلَمْ نَعْلَمْهُ أَفْسَدَ لَهُمْ نِكَاحًا وَلاَ مَنَعَ أَحَدًا مِنْهُمْ أَسْلَمَ امْرَأَتَهُ وَامْرَأَتُهُ بِالْعَقْدِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الشِّرْكِ بَلْ أَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ النِّكَاحِ إذَا كَانَ مَاضِيًا وَهُمْ مُشْرِكُونَ وَإِنْ كَانُوا مُعَاهَدِينَ وَمُهَادَنِينَ وَهَكَذَا إنْ جَاءَنَا رَجُلاَنِ مِنْهُمْ قَدْ تَبَايَعَا خَمْرًا وَلَمْ يتقابضاها أَبْطَلْنَا الْبَيْعَ وَإِنْ تَقَابَضَاهَا لَمْ نَرُدَّهُ لِأَنَّهُ قَدْ مَضَى، وَإِنْ تَبَايَعَاهَا فَقَبَضَ الْمُشْتَرِي بَعْضًا وَلَمْ يَقْبِضْ بَعْضًا لَمْ يَرُدَّ الْمَقْبُوضَ وَرَدَّ مَا لَمْ يَقْبِضْ وَهَكَذَا بُيُوعُ الرِّبَا كُلُّهَا وَلَوْ جَاءَتْنَا نَصْرَانِيَّةٌ قَدْ نَكَحَهَا مُسْلِمٌ بِلاَ وَلِيٍّ أَوْ شُهُودٍ نَصَارَى أَفْسَدْنَا النِّكَاحَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَبَدًا غَيْرَ تَزْوِيجِ الْإِسْلاَمِ، فَنُنَفِّذُ لَهُ وَلَوْ جَاءَنَا نَصْرَانِيٌّ بَاعَ مُسْلِمًا خَمْرًا أَوْ نَصْرَانِيٌّ ابْتَاعَ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا تَقَابَضَاهَا أَوْ لَمْ يتقابضاها أَبْطَلْنَاهَا بِكُلِّ حَالٍ وَرَدَدْنَا الْمَالَ إلَى الْمُشْتَرِي وَأَبْطَلْنَا ثَمَنَ الْخَمْرِ عَنْهُ إنْ كَانَ الْمُسْلِمُ الْمُشْتَرِي لَهَا لَمْ يَمْلِكْ خَمْرًا‏.‏

وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْلِكَ ثَمَنَ خَمْرٍ، وَلاَ آمُرُ الذِّمِّيَّ أَنْ يَرُدَّ الْخَمْرَ عَلَى الْمُسْلِمِ وَأُهْرِيقَهَا عَلَى الذِّمِّيِّ إذَا كَانَ مَلَكَهَا عَلَى الْمُسْلِمِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ كَمَالِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ الْقَابِضُ لِلْخَمْرِ يَرُدُّ ثَمَنَ الْخَمْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وأهريقت الْخَمْرُ لِأَنِّي لاَ أَقْضِي عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَرُدَّ خَمْرًا‏.‏

وَيَجُوزُ أَنْ أُهْرِيقَهَا لِأَنَّ الذِّمِّيَّ عَصَى بِإِخْرَاجِهَا إلَى الْمُسْلِمِ مَعَ مَعْصِيَتِهِ بِمِلْكِهَا وَأَخْرَجَهَا طَائِعًا فَأَدَّبْته بِإِهْرَاقِهَا لَمْ أَكُنْ أُهْرِيقَهَا وَلَمْ يَأْذَنْ فِيهَا إنَّمَا أُهْرِيقَهَا بَعْدَ مَا أَذِنَ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَإِنْ جَاءَتْنَا امْرَأَةُ الذِّمِّيِّ قَدْ نَكَحَتْهُ فِي بَقِيَّةٍ مِنْ عِدَّتِهَا مِنْ زَوْجٍ غَيْرِهِ فَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا لِحَقِّ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ هَذَا كَفَسَادِ عُقْدَةٍ نُجِيزُهَا لَهُ إذَا كَانَتْ جَائِزَةً عِنْدَهُ لاَ ضَرَرَ فِيهَا عَلَى غَيْرِهِ وَلاَ تَجُوزُ فِي الْإِسْلاَمِ بِحَالٍ وَإِنْ طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلاَثًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَهُ فَسَخْنَا النِّكَاحَ وَجَعَلْنَا لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا إنْ أَصَابَهَا وَلَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ يُصِيبُهَا فَإِذَا نَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَأَصَابَهَا حَلَّ لَهُ نِكَاحُهَا‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَتَبْطُلُ بَيْنَهُمْ الْبُيُوعُ الَّتِي تَبْطُلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كُلُّهَا فَإِذَا مَضَتْ وَاسْتُهْلِكَتْ لَمْ نُبْطِلْهَا إنَّمَا نُبْطِلُهَا مَا كَانَتْ قَائِمَةً وَإِنْ جَاءَنَا عَبْدُ أَحَدِهِمْ قَدْ أَعْتَقَهُ أَعْتَقْنَا عَلَيْهِ وَإِنْ كَاتَبَهُ كِتَابَةً جَائِزَةً عِنْدَمَا أَجَزْنَاهَا لَهُ أَوْ أُمُّ وَلَدٍ يُرِيدُ بَيْعَهَا لَمْ نَدَعْهُ يَبِيعُهَا فِي قَوْلِ مَنْ لاَ يَبِيعُ أُمَّ الْوَلَدِ وَيَبِيعُهَا فِي قَوْلِ مَنْ يَبِيعُ أُمَّ الْوَلَدِ فَإِذَا أَسْلَمَ عَبْدُ الذِّمِّيِّ بِيعَ عَلَيْهِ فَإِنْ أَعْتَقَهُ الذِّمِّيُّ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ وَأَقْبَضَهُ فَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ مَالِكُهُ وَوَلاَؤُهُ لِلذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ وَلاَ يَرِثُهُ إنْ مَاتَ بِالْوَلاَءِ لِاخْتِلاَفِ الدِّينَيْنِ، فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ثُمَّ مَاتَ وَرِثَهُ بِالْوَلاَءِ وَهَكَذَا أَمَتُهُ فَإِنْ أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِهِ عُزِلَ عَنْهَا وَأُخِذَ بِنَفَقَتِهَا وَكَانَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ وَإِنْ دَبَّرَ عَبْدًا لَهُ فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ فَفِيهَا قَوْلاَنِ، أَحَدُهُمَا أَنْ يُبَاعَ عَلَيْهِ كَمَا يُبَاعُ عَبْدُهُ لَوْ قَالَ لَهُ أَنْتَ حُرٌّ إذَا دَخَلْت الدَّارَ أَوْ كَانَ غَدٌ أَوْ جَاءَ شَهْرُ كَذَا وَالْآخَرُ لاَ يُبَاعُ حَتَّى يَمُوتَ فَيَعْتِقَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ السَّيِّدُ بَيْعَهُ فَإِذَا شَاءَ جَازَ بَيْعُهُ وَإِنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ قِيلَ لِلْمُكَاتَبِ إنْ شِئْت فَاتْرُكْ الْكِتَابَةَ وَتُبَاعُ وَإِنْ شِئْت فَأَنْتَ عَلَى الْكِتَابَةِ فَإِذَا أَدَّيْت عَتَقْت وَمَتَى عَجَزْت أُبِعْتَ وَهَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ الْعَبْدُ ثُمَّ كَاتَبَهُ سَيِّدُهُ النَّصْرَانِيُّ أَوْ أَسْلَمَ ثُمَّ دَبَّرَ أَوْ أَسْلَمَتْ أَمَتُهُ ثُمَّ وَطِئَهَا فَحَبِلَتْ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ وَلاَ عَلَيْهَا، وَإِذَا جَنَى النَّصْرَانِيُّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ عَمْدًا فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقَوَدِ وَالْعَقْلِ إنْ كَانَ جَنَى جِنَايَةً فِيهَا الْقَوَدُ فَإِذَا اخْتَارَ الْعَقْلَ فَهُوَ حَالٌّ فِي مَالِ الْجَانِي، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي كَمَا تَكُونُ عَلَى عَوَاقِلِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْجَانِي عَاقِلَةٌ فَالْجِنَايَةُ فِي مَالِهِ دَيْنٌ يُتْبَعُ بِهَا وَلاَ يَعْقِلُ عَنْهُ النَّصَارَى وَلاَ قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَهُمْ لاَ يَرِثُونَ وَلاَ يَعْقِلُ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُ وَهُمْ لاَ يَأْخُذُونَ مَا تَرَكَ إذَا مَاتَ مِيرَاثًا إنَّمَا يَأْخُذُونَهُ فَيْئًا‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ وَوُلاَةُ دِمَاءِ النَّصَارَى كَوُلاَةِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْنَهُمْ شَهَادَةٌ إلَّا شَهَادَةُ الْمُسْلِمِينَ وَيَجُوزُ إقْرَارُهُمْ بَيْنَهُمْ كَمَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَكُلُّ حَقٍّ بَيْنَهُمْ يُؤْخَذُ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُؤْخَذُ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ فَإِذَا أَهَرَاقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِصَاحِبِهِ خَمْرًا أَوْ قَتَلَ لَهُ خِنْزِيرًا أَوْ حَرَقَ لَهُ مَيْتَةً أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ جِلْدَ مَيْتَةٍ لَمْ يُدْبَغْ لَمْ يَضْمَنْ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لِأَنَّ هَذَا حَرَامٌ وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْحَرَامِ ثَمَنٌ وَلَوْ كَانَتْ الْخَمْرُ فِي زِقٍّ فَخَرَقَهُ أَوْ جَرَّةٍ فَكَسَرَهَا ضَمِنَ مَا نَقَصَ الْجَرَّ أَوْ أَحَلَفَهُ وَلَمْ يَضْمَنْ الْخَمْرَ لِأَنَّهُ يَحِلُّ مِلْكُ الزِّقِّ وَالْجَرَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الزِّقُّ مِنْ مَيْتَةٍ لَمْ يُدْبَغْ أَوْ جِلْدِ خِنْزِيرٍ دُبِغَ أَوْ لَمْ يُدْبَغْ فَلاَ يَكُونُ لَهُ ثَمَنٌ وَلَوْ كَسَرَ لَهُ صَلِيبًا مِنْ ذَهَبٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَوْ كَسَرَهُ مِنْ عُودٍ وَكَانَ الْعُودُ إذَا فُرِّقَ لَمْ يَكُنْ صَلِيبًا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الصَّلِيبِ فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَ الْكَسْرُ الْعُودَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَسَرَ لَهُ تِمْثَالاً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ خَشَبٍ يَعْبُدُهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي الذَّهَبِ شَيْءٌ وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا فِي الْخَشَبِ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَشَبُ مَوْصُولاً فَإِذَا فُرِّقَ صَلُحَ لِغَيْرِ تِمْثَالٍ فَيَكُونَ عَلَيْهِ مَا نَقَصَ كَسْرُ الْخَشَبِ لاَ مَا نَقَصَ قِيمَةَ الصَّنَمِ وَلَوْ كَسَرَ لَهُ طُنْبُورًا أَوْ مِزْمَارًا أَوْ كَبَرًا فَإِنْ كَانَ فِي هَذَا شَيْءٌ يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْمَلاَهِي فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَ الْكَسْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَصْلُحُ إلَّا لِلْمَلاَهِي فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَهَكَذَا لَوْ كَسَرَهَا نَصْرَانِيٌّ لِمُسْلِمٍ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ يَهُودِيٌّ أَوْ مُسْتَأْمَنٌ أَوْ كَسَرَهَا مُسْلِمٌ لِوَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ أَبْطَلْت ذَلِكَ كُلَّهُ قَالَ وَلَوْ أَنَّ نَصْرَانِيًّا أَفْسَدَ لِنَصْرَانِيٍّ مَا أَبْطَلَ عَنْهُ فَغَرِمَ الْمُفْسِدُ شَيْئًا بِحُكْمِ حَاكِمِهِمْ أَوْ شَيْئًا يَرَوْنَهُ حَقًّا يُلْزِمُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَوْ شَيْئًا تَطَوَّعَ لَهُ بِهِ وَضَمِنَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ الْمَضْمُونُ لَهُ حَتَّى جَاءَنَا الضَّامِنُ أَبْطَلْنَاهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ وَلَوْ لَمْ يَأْتِنَا حَتَّى يَدْفَعَ إلَيْهِ ثُمَّ سَأَلْنَا إبْطَالَهُ فَفِيهَا قَوْلاَنِ أَحَدُهُمَا لاَ نُبْطِلُهُ وَنَجْعَلُهُ كَمَا مَضَى مِنْ بُيُوعِ الرِّبَا وَالْآخَرُ أَنْ نُبْطِلَهُ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ آخِذٌ مِنْهُ عَلَى غَيْرِ بَيْعٍ إنَّمَا أُخِذَ بِسَبَبِ جِنَايَةٍ لاَ قِيمَةَ لَهَا‏.‏

وَلَوْ كَانَ الَّذِي غَرِمَ لَهُ مَا أَبْطَلَ عَنْهُ فِي الْحُكْمِ مُسْلِمًا وَقَبَضَهُ مِنْهُ ثُمَّ جَاءَنِي رَدَدْته عَلَى الْمُسْلِمِ كَمَا لَوْ أَرْبَى عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ أَرْبَى عَلَيْهِ مُسْلِمٌ وَتَقَابَضَا رَدَدْت ذَلِكَ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ لَوْ أَهَرَاقَ نَصْرَانِيٌّ لِمُسْلِمٍ خَمْرًا أَوْ أَفْسَدَ لَهُ شَيْئًا مِمَّا أَبْطَلَهُ عَنْهُ وَتَرَافَعَا إلَيَّ وَغَرِمَ لَهُ النَّصْرَانِيُّ قِيمَتَهُ مُتَطَوِّعًا أَوْ بِحُكْمِ ذِمِّيٍّ أَوْ بِأَمْرٍ رَآهُ النَّصْرَانِيُّ لاَزِمًا لَهُ وَدَفَعَهُ إلَى الْمُسْلِمِ ثُمَّ جَاءَنِي أَبْطَلْته عَنْهُ وَرَدَدْت النَّصْرَانِيَّ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِمُسْلِمٍ قَبْضُ حَرَامٍ وَمَا مَضَى مِنْ قَبْضِهِ الْحَرَامِ وَبَقِيَ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ يَرُدُّ عَنْهُ وَأَنَّهُ لاَ يُقِرُّ عَلَى حَرَامٍ جَهِلَهُ وَلاَ عَرَفَهُ بِحَالٍ‏.‏

وَيَجُوزُ لِلنَّصْرَانِيِّ أَنْ يُقَارِضَ الْمُسْلِمَ وَأَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُقَارِضَ النَّصْرَانِيَّ أَوْ يُشَارِكَهُ خَوْفَ الرِّبَا وَاسْتِحْلاَلَ الْبُيُوعِ الْحَرَامِ وَإِنْ فَعَلَ لَمْ أَفْسَخْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْمَلُ بِالْحَلاَلِ وَلاَ أَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ النَّصْرَانِيَّ وَأَكْرَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ النَّصْرَانِيُّ الْمُسْلِمَ وَلاَ أَفْسَخُ الْإِجَارَةَ إذَا وَقَعَتْ وَأَكْرَهُ أَنْ يَبِيعَ الْمُسْلِمُ مِنْ النَّصْرَانِيِّ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ أَمَةً مُسْلِمَةً وَإِنْ بَاعَهُ لَمْ يَبِنْ لِي أَنْ أَفْسَخَ الْبَيْعَ وَجَبَرْتُ النَّصْرَانِيَّ عَلَى بَيْعِهِ مَكَانَهُ إلَى أَنْ يَعْتِقَهُ أَوْ يَتَعَذَّرَ السُّوقُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ فَأُلْحِقُهُ بِالسُّوقِ وَيَتَأَنَّى بِهِ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ ثُمَّ أُجْبِرُهُ عَلَى بَيْعِهِ قَالَ وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ إنَّ الْبَيْعَ مَفْسُوخٌ، وَإِنْ بَاعَ مُسْلِمٌ مِنْ نَصْرَانِيٍّ مُصْحَفًا فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ، وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَ مِنْهُ دَفْتَرًا فِيهِ أَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ أَنَّ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ قَدْ يَعْتِقَانِ فَيَعْتِقَانِ بِعِتْقِ النَّصْرَانِيِّ وَهَذَا مَالٌ لاَ يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ مَالِكِهِ إلَّا إلَى مَالِكٍ غَيْرِهِ وَإِنْ بَاعَهُ دَفَاتِرَ فِيهَا رَأْيٌ كَرِهْت ذَلِكَ لَهُ وَلَمْ أَفْسَخْ الْبَيْعَ، وَإِنْ بَاعَهُ دَفَاتِرَ فِيهَا شِعْرٌ أَوْ نَحْوٌ لَمْ أَكْرَهْ ذَلِكَ لَهُ وَلَمْ أَفْسَخْ الْبَيْعَ، وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَهُ طِبًّا أَوْ عِبَارَةَ رُؤْيَا وَمَا أَشْبَهَهُمَا فِي كِتَابٍ قَالَ‏:‏ وَلَوْ أَنَّ نَصْرَانِيًّا بَاعَ مُسْلِمًا مُصْحَفًا أَوْ أَحَادِيثَ مِنْ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا لَمْ أَفْسَخْ لَهُ الْبَيْعَ وَلَمْ أَكْرَهْهُ إلَّا أَنِّي أَكْرَهُ أَصْلَ مِلْكِ النَّصْرَانِيِّ فَإِذَا أَوْصَى الْمُسْلِمُ لِلنَّصْرَانِيِّ بِمُصْحَفٍ أَوْ دَفْتَرٍ فِيهِ أَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْطَلْت الْوَصِيَّةَ‏.‏

وَلَوْ أَوْصَى بِهَا النَّصْرَانِيُّ لِمُسْلِمٍ لَمْ أُبْطِلْهَا وَلَوْ أَوْصَى الْمُسْلِمُ لِلنَّصْرَانِيِّ بِعَبْدٍ مُسْلِمٍ فَمَنْ قَالَ أَفْسَخُ بَيْعَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لَوْ اشْتَرَاهُ النَّصْرَانِيُّ أَبْطَلَ الْوَصِيَّةَ وَمَنْ قَالَ أُجْبِرُهُ عَلَى بَيْعِهِ أَجَازَ الْوَصِيَّةَ، وَهَكَذَا هِبَةُ الْمُسْلِمِ لِلنَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْت، وَلَوْ أَوْصَى مُسْلِمٌ لِنَصْرَانِيٍّ بِعَبْدٍ نَصْرَانِيٍّ فَمَاتَ الْمُسْلِمُ ثُمَّ أَسْلَمَ النَّصْرَانِيُّ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ فِي الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ بِمَوْتِ الْمُوصِي وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَيُبَاعُ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِهِ النَّصْرَانِيُّ كَانَ كَوَصِيَّةٍ لَهُ بِعَبْدٍ لاَ يَخْتَلِفَانِ، فَإِذَا أَوْصَى النَّصْرَانِيُّ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ فَجَاءَنَا وَرَثَتُهُ أَبْطَلْنَا مَا جَاوَزَ الثُّلُثَ إنْ شَاءَ الْوَرَثَةُ كَمَا نُبْطِلُهُ إنْ شَاءَ وَرَثَةُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ يَبْنِي بِهِ كَنِيسَةً لِصَلاَةِ النَّصَارَى أَوْ يَسْتَأْجِرُ بِهِ خَدَمًا لِلْكَنِيسَةِ أَوْ يَعْمُرُ بِهِ الْكَنِيسَةَ أَوْ يَسْتَصْبِحُ بِهِ فِيهَا أَوْ يَشْتَرِي بِهِ أَرْضًا فَتَكُونُ صَدَقَةً عَلَى الْكَنِيسَةِ وَتَعْمُرُ بِهَا أَوْ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ خَمْرًا أَوْ خَنَازِيرَ فَيَتَصَدَّقَ بِهَا أَوْ أَوْصَى بِخَنَازِيرِ لَهُ أَوْ خَمْرٍ أَبْطَلْنَا الْوَصِيَّةَ فِي هَذَا كُلِّهِ، وَلَوْ أَوْصَى أَنْ تُبْنَى كَنِيسَةٌ يَنْزِلُهَا مَارُّ الطَّرِيقِ أَوْ وَقَفَهَا عَلَى قَوْمٍ يَسْكُنُونَهَا أَوْ جَعَلَ كِرَاءَهَا لِلنَّصَارَى أَوْ لِلْمَسَاكِينِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ وَلَيْسَ فِي بُنْيَانِ الْكَنِيسَةِ مَعْصِيَةٌ إلَّا أَنْ تُتَّخَذَ لِمُصَلَّى النَّصَارَى الَّذِينَ اجْتِمَاعُهُمْ فِيهَا عَلَى الشِّرْكِ وَأَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَعْمَلَ بِنَاءً أَوْ نِجَارَةً أَوْ غَيْرَهُ فِي كَنَائِسِهِمْ الَّتِي لِصَلَوَاتِهِمْ، وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُعْطِيَ الرُّهْبَانَ وَالشَّمَامِسَةَ ثُلُثَهُ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهُ قَدْ تَجُوزُ الصَّدَقَةُ عَلَى هَؤُلاَءِ، وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يَكْتُبَ بِثُلُثِهِ الْإِنْجِيلَ وَالتَّوْرَاةَ لِدَرْسٍ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ ذَكَرَ تَبْدِيلَهُمْ مِنْهَا فَقَالَ «الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» وَقَالَ «وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ» قَرَأَ الرَّبِيعُ الْآيَةَ وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يَكْتُبَ بِهِ كُتُبَ طِبٍّ فَتَكُونُ صَدَقَةً جَازَتْ لَهُ الْوَصِيَّةُ وَلَوْ أَوْصَى أَنْ تُكْتَبَ بِهِ كُتُبُ سِحْرٍ لَمْ يَجُزْ‏.‏

وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِثُلُثِهِ سِلاَحًا لِلْمُسْلِمِينَ جَازَ وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ سِلاَحًا لِلْعَدُوِّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِبَعْضِ أَهْلِ الْحَرْبِ جَازَ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْرُمْ أَنْ يُعْطَوْا مَالاً وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى أَنْ يُفْتَدَى مِنْهُ أَسِيرٌ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ قَالَ‏:‏ وَمَنْ اسْتَعْدَى عَلَى ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ أَعْدَى عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ ذَلِكَ الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ إذَا اسْتَعْدَى عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ فِيهِ حَقٌّ لِلْمُسْتَعْدِي وَإِنْ جَاءَنَا مُحْتَسِبٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ يَذْكُرُ أَنَّ الذِّمِّيِّينَ يَعْمَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَعْمَالاً مِنْ رِبَاءٍ لَمْ نَكْشِفْهُمْ عَنْهَا لِأَنَّ مَا أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مَا لَمْ يَكُنْ لَهَا طَالِبٌ يَسْتَحِقُّهَا وَكَذَلِكَ لاَ يَكْشِفُونَ عَمَّا اسْتَحَلُّوا مِنْ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ فَإِنْ جَاءَتْنَا مَحْرَمٌ لِلرَّجُلِ قَدْ نَكَحَتْهُ فَسَخْنَا النِّكَاحَ فَإِنْ جَاءَتْنَا امْرَأَةٌ نَكَحَهَا عَلَى أَرْبَعٍ أَجْبَرْنَاهُ بِأَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعًا وَيُفَارِقَ سَائِرَهُنَّ وَإِنْ لَمْ تَأْتِنَا لَمْ نَكْشِفْهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ يُفَرِّقُ بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنْ الْمَجُوسِ فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرَّقَ إذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ أَوْ وَلِيُّهَا أَوْ طَلَبَهُ الزَّوْجُ لِيُسْقِطَ عَنْهُ مَهْرَهَا وَتَرْكُنَا لَهُمْ عَلَى الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِنْ تَرْكِنَا لَهُمْ عَلَى نِكَاحِ ذَاتِ مَحْرَمٍ وَجَمْعُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ مَا لَمْ يَأْتُونَا فَإِنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ مَسْرُوقٌ بِسَارِقٍ قَطَعْنَاهُ لَهُ وَإِنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَارِقٌ قَدْ اسْتَعْبَدَهُ مَسْرُوقٌ بِحُكْمٍ لَهُ أَبْطَلْنَا الْعُبُودِيَّةَ عَنْهُ وَحَكَمْنَا عَلَيْهِ حُكْمَنَا عَلَى السَّارِقِ قَالَ‏:‏ وَلِلنَّصْرَانِيِّ الشُّفْعَةُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَلِلْمُسْلِمِ الشُّفْعَةُ عَلَيْهِ وَلاَ يُمْنَعُ النَّصْرَانِيُّ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مُسْلِمٍ مَاشِيَةً فِيهَا صَدَقَةٌ وَلاَ أَرْضَ زَرْعٍ وَلاَ نَخْلاً وَإِنْ أَبْطَلَ ذَلِكَ الصَّدَقَةَ فِيهَا كَمَا لاَ يُمْنَعُ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ مُفَرَّقًا مِنْ جَمَاعَةٍ فَتَسْقُطَ فِيهِ الصَّدَقَةُ قَالَ‏:‏ وَلاَ يَكُونُ لِذِمِّيٍّ أَنْ يُحْيِيَ مَوَاتًا مِنْ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ أَحْيَاهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ بِإِحْيَائِهَا وَقِيلَ لَهُ خُذْ عِمَارَتَهَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِيهَا وَالْأَرْضُ لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لِمَنْ أَحْيَاهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلُ يُحْيِيهِ كَالْفَيْءِ وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْفَيْءَ وَمِلْكَ مَا لاَ مَالِكَ لَهُ لِأَهْلِ دِينِهِ لاَ لِغَيْرِهِمْ‏.‏